نموذج الاتصال

الغياب لمعنى. أو رؤية العائد.

 

- تقول غالية بنعلي "دع عنك من راحوا، ومن ظلوا معك" ويقولون "أنكر من عرفت، ولا تتعرف إلى من لا تعرف" وتقول هدباء عن نزار "كانت العزلة"

لماذا يبحث الإنسان عن وظيفة أو يتوظف؟ لن نكذب على بعضنا بديباجة خدمة المجتمع ودفع عجلة التنمية والنهضة بالمجتم... دعنا من هذا كله. الإنسان يتوظف للعائد المادي، ولكن ما أريد الوصول إليه: لماذا يحصل على عائد مادي؟ فلا يخفى عليك عزيزي القارئ -الحقيقة لا أجزم بأنك عزيز- أن علة هذا العائد لأنه باع وقته لرب العمل وأصبح وقته مملوك لغيره بموجب هذه الأموال التي يأكل بها من ماكدونالدز ويملأ بها خزان الكامري. دعنا نذهب الآن إلى رجل يبحث في اللغة العربية طوال يومه، فيستغرق يومه وهو يذرع أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني. فهو يشابه الحالة الأولى مع اختلاف المشتري، الأول باع وقته لرب العمل والآخر باعه للعلم، ولكن المشكلة في العائد الذي يحصل عليه الأول ويراه المجتمع، ويحصل عليه الثاني وقد لا يراه أحد.

ولتوضيح نظرة المجتمع فلنقل أنه ثمة رجلًا غابَ عن محفلٍ ما، وكان سبب غيابه وظيفته، هل ثمة رجلًا سيقول لماذا لم يترك وظيفته ويأتي؟ لا أتصور هذا ولم أراه من قبل، وعلة هذا أنهم كلهم يرون العائد المادي من الوظيفة.

بينما لو غاب ذات الرجل، وكان سبب غيابه عزلته مع كتاب، فهل سيتسامحون بهذا؟ لا أظن، والسبب في هذا أنهم لا يرون العائد منه، فالعائد خفي مالم يظهره صاحب الكتاب بعد سنوات.
فنجد الآن الإنكار على من يعتزل مع علمه، بينما لا نجد أدنى اعتراض على من ينعزل لوظيفته، لأننا في وقت باتت المادة تتقدم فيه على المعنى، وأنا لا أدعو هنا إلى ترك الوظائف والاتجاه للعلم، افعل ما يحلو لك، ولو أردت قضاء حياتك على رصيف مطعم مشهور تعد الزبائن الذين يقفون أمامه يوميًا ثم تعود لبيتك، هذا شأنك، ولكن لا يُسْتَشْكَل على طالب العلم أنه يطلب العلم ويتخذ العزلة كخطوة أساسية في هذا، وابحث في سير الأولين: لماذا لم يستشكلوا عزلة ديكارت في هولندا أو ابتعاد المعري عن الحياة الاجتماعية، بل -تخيلوا يا جماعة الخير- أن الغزالي في إحياء علوم الدين يوصي من يعتزل العلم "ويسد سمعه عن الإصغاء إلى ما يقال فيه من ثناء عليه بالعزلة"* فهم لم يكتفوا بالسكوت عنهم، بل بالمديح لهؤلاء الذين تركوا الخروج واعتزلوا مع أنفسهم. ولكن هذا المعنى سقط، فاستشكل الناس بذل الوقت دون عائد مادي يرونه بأكياس ماكدونالدز.

ولو تأملنا الحال، فإن العوائد المادية رغم لذتها، إلا أنها في وقتٍ ما تفقد الجمال، ويحال المرء على التقاعد أو يطلبه هو، وهذا لفقدان المعنى فيما يعمل، فيكون مثلًا مُشغِّل لآلة تضخ البانزين لطوال ثلاثين عامًا، ويذهب ليله بعد نهاره وقمره بعد شمسه وهو يفعل ما لا يعلم معناه من شخصٍ مأمور أن يأمر هذا الرجل دون معرفة علة الأمر، والأمر الأول من رئيس لا يفصح عن أسباب أوامره، فيبقى الموظف آلة تنفيذ، لا يُبَرُرُ له ولا يَطلبُ تبريرًا. بينما العائد المعنوي لا يفقد لذته المرء حتى يموت، والسبب في هذا لأن كل طالب علم -في أي تخصص كان- يعرف ماذا يفعل ولماذا يفعله وماهي النتائج التي سيفضي لها فعله، والكتاب الذي يتلو هذا الكتاب، والمرتبة التالية في علمه هذا، وهكذا يقضي عمره حتى يموت وهو يفنى في ذات العلم، ولهذا لا نجد أحد يديور من العلم بعد أن يقضي في فلكه ثلاثين سنة كما يحصل في الوظائف، وهذا يجعله اكثر استدامة.< والاستدامة من أهداف الرؤية -كما تعرفون- لذلك العلم أفضل، ثمَّ قُبلة حب لكل تلك المؤلفات التي تزدان بها العزلة.

 

* الموسوعة الفقهية الكويتية، الجزء 30، الصفحة 86



2 تعليقات

  1. دُرر في طيّاتها كنز..
    لاعدمنا حرفُك

    ردحذف