نموذج الاتصال

ما بين ركود الأفكار واندفاع المشاعر - ديفيد هيوم

"المشاعر أشد تأثيرًا من الأفكار المقدسة"
- هيوم

أقرأ ما قاله عميد الأدب العربي "طه حسين" من كتابه هامش على السيرة من نقولات عن الرسول العربي محمد، حين قال عن خروجه من رحم أمه، أنها كانت "ترى ويرى صاحباتها كأن شهابًا انبعثت منها فملأ الأرض من حولها نورًا يبهر الأبصار" ثم يردف قوله بوصف النساء اللواتي حول أم محمد حين "يتناولن أجمل صبي، وأروع صبي، وأبرع صبي، وإذا قلوبهن قد امتلأت بأن الأرض قد استقبلت وليدًا لا كالولدان." وينهمر بعباراتٍ لا تخرج إلا من وجدان من آمن بقدسية هذا الرجل، وأقام حوله سياجًا يقتبس منه حتى ينقل للأجيال إعجابه وإيمانه.
ولكن يُصدم الجميع حين يعلن "فريد شحاتة" من صفحات مجلة الإذاعة والتليفزيون المصرية أن "طه حسين" تحول للمسيحية، وأغلب التفسيرات التي تعلل تحوله من الإسلام إلى المسيحية، لأنه أراد الزواج من "سوزان بريستو" التي كانت تدين بالمسيحية، ليتفوق العشق على كل ما كان لديه من ترسبات فكرية مقدسة، أمام سطوة المشاعر الجارفة، ويقول لنا هذا الموقف أن الحب المندفع في صدرهِ أمام سوزان، قد جعله يقايض به كل ما كان وسيكون من فكرٍ واعتقاد.
بصرف النظر عن المعركة التي دارت بين حقيقة أو عدم حقيقة هذا الأمر، فإنه على المستوى العلمي أمر ذاتي لا يعد مدخلًا للطعن بمؤلفاته، فالقارئ يحاكم النص لذاته ولا يعنيه المؤلف إن كان فلان أو علان، ولكن المعنى هنا أن البواعث التي جعلته يتخلى عن مقدساته الأسمى عواطف لم تحاكم لسياقٍ فكريّ، كان يحبها، وهذا كفيل فقط بأن يجعل المعتقدات تتهاوى.

وبالحديث عن هذا لا نتجاوز الفنان المصري "ميشيل ديمتري شلهوب" الذي تحول اسمه بعد إسلامه إلى "عمر الشريف" ليصبح زوجًا لفاتن حمامة، وكان قد التقاها بفيلم صراع في الوادي (1954) وأغرم بها، لم يستطع أن يتجاوز نظراتها، وضحكاتها، ونعومتها حين كانت تتحدث في دورها كابنة باشا مترفة. ثم يقرر أن يرتبط بها ليضرب بكل معتقداته السابقة ضرب الحائط ويطبق مقولة هيوم، ويتم زواجهم في (1958) ويعيشان قصة حب مجنونة سطرتها الكتب وأعاد روايتها الكتاب.
فعودة على نظرية هيوم، فهو يقول عن الأفكار أنها لا تعدو أن تكون "صور باهتة" لا تجعل الإنسان يندفع من أجلها لأنها حبيسة الفكر وظاهرة لا تعدو أن تكون لغوية، الأغلب يؤمن، ولكن لا أحد بإمكانه أن يلمس الإيمان أو يكلمه، أو يتخاطب مع العقائد من حوله، بينما في وسع الإنسان بكل بساطة أن يلمس محبوبته، ويرى أثر هذا عليه فوريًا.
ويقدس هيوم في نظرية المعرفة الأشياء البسيطة، الملاحظة الشخصية، وهذا يعود على الأشياء البسيطة بالقداسة، فمثلاً كوب القهوة، أشد لذة بمراحل من تأليف سلسلة كتب في تفسير نشوء الكون، ويقول زكي نجيب محمود في تفسير شرح وعرض فكرة هيوم "وإن أمثال هذه الأفكار التي لا ترتد إلى أصول حسية، لتكثر عند الفلاسفة الميتافيزيقيين" ويشنع عليهم، لأن المعرفة تكمن في المحسوسات، والحواس هي التي تتألف منها الأفكار، وكل الأشياء الأخرى لا تتكون إلا عن طريقها.

كل ما ازدادت بساطة الأمر، زادت سعادتنا به وقدرتنا على التضحية من أجله والتخلي عن الأفكار المقدسة في سبيله، فمثلاً لو قلنا أن ثمة رجل في أعالي جبال الهند يؤمن بالبوذية، فإن التزامه بالقواعد الخمس ليورثه الوصول إلى النيرفانا (الانطفاء) التي وصفها (البودها) ويبعد لذة الحواس إلى وقتٍ بعيد، بعيد جدًا، إلى ما وراء الحياة، وما بعد الموت، وما بعد الحساب، فتصبح اللذة في جوارهِ دائمًا مرجأة ولا تحقق لطالبها ما يصبو إليه ولا ينال وطره من الحياة، ويحيا الحياة ينتظر تلك الحالة التي تجعل كل الأضداد تختفي، ويبقى خامدًا لا يسعى إلى السعادة، ولا إلى الرغبات.
ولكن يذكر هيوم أنه ثمة حالات -نادرة- تصاب بها الأفكار بشدةٍ ما، فتصبح عند أصحابها نضالية جدًا ومن الممكن أن يواجهوا العالم بأسرهِ في ظل رفعتها وتأمين مستقبلها والعبور بها إلى برٍ آمن لا يقترب منه أحد ليدنس مجد دعوتهم وصدق معتقدهم، ولكنها كما تقدم حالات من الندرة بمكان، ولا توجد سوى بأفراد، أو جيل معين دون بقية الأجيال.
فمثلاً كان تولستوي يقول عن نفسه "لقد كذبت وقمت بالسرقة وأعمال الفسوق بكافة أشكالها، وشربت حد الثمالة" واستمر على هذه الحال مدة طويلة التي يجد فيها متعته في لذائذ الدنيا المختلفة، ولكنه في مرحلة متقدمة نذر عمره للبحث عن الحقيقة، قادته الأفكار المقدسة وخفتت المشاعر وقال "كان من المفترض بي أن أكون سعيدًا بالتخلص من كل ما لا شأن له بالعقل السليم -يقصد المعتقدات الدينية- ولكنني لم أكن أعلم إلى أين ألجأ. كان معنى الحياة الذي انكشف لي مبنيًا على هذه العقائد الدينية عينها... أملي في الخلاص يكمن ها هنا" ثم مضى عاكف على دراسة الأديان.

ومثال على قوة الأفكار للشعوب: إيمان الشعب الألماني حين تكاتف في عمومه لاجتياح أوروبا قاطبة تحت ظل الحكومة النازية آنذاك، وكان يكفي أن يؤمن شخصًا ما بأفكاره -وهو أدولف- ليقنع جميع من سمعه بهذا الجنون من الجماهير التي "لا بد من قائد حكيم يقوم بتوجيهها" وقد تمكن بعض الشيء من إحداث سبق تاريخي قل أن نجد مثيله على مستوى جيلٍ بأكمله، وأيضًا حين تمكن العرب من هدم الإمبراطوريات العظيمة، والوقائع أشهر من أن نذكرها.
ولكن سرعان ما يتبخر هذا المعنى النبيل والهمة النفيسة، وتعود الانطباعات هي الأقوى على النفوس، وهذا لأن الرضا يحيط بالروح ويصعد بها إلى دياجير الحبور ما إن يشعر الإنسان بأنه حقق ما يشتهي، وعلى عكس ما نجده من الأفكار التي تجعلنا نبتعد عن ما نشتهي ويصيبنا حزن ناتج عن مفارقتها وعدم استطاعتنا مقاربتها، فالأحكام من حيث الشر والخير تعتمد على شعور النفس اتجاهها "لا نستطيع أن نجد وراء الرضا شيئًا آخر سوى أنه شعور نحسه، وبهذا القول يرتد حكمنا على الأفعال بأنها خير أو بأنها شر إلى إحساسات باللذة في الحالة الأولى وإحساسات بالألم في الحالة الثانية."

هذه اللذة التي تحدد الخير من الشر تحضر عند الجميع ويشرب من معينها من عَلِمَ، ومن جَهِلَ، بما فيهم الفلاسفة الذين يعرفون سطوة المشاعر ويدركون العقلانية، ولنا في نيتشه مثال، وهو الذي كان يحيا حياة تحفها العزلة، وتتجه معتقداته نحو مفارقة الناس، لأن الناس لا تستطيع أن تؤخذ حكم ممَّن يمارس الحياة معهم ويرونه في السوق والحديقة وأمام دكان بيع الخضار، ولكن حين يرى نيتشه سالومي ويتقد العشق بصدره يقول: "لم أعد أرغب بالبقاء وحيدًا أبدًا."

1 تعليقات

  1. أنت حقيفي.... احذر أن تفقد حقيقيتك وليس حقيقتك.

    ردحذف