لأن الانتظار قاسٍ في ليالي الشتاء مضاعفًا عن غيره، تذكرت من وعدتهم
بالمجيء، من انتظروا ولو لبرهة، على أجهزتهم المحمولة يحدثون الصفحة باستمرار، أو
وراء دكاكينهم الممتئلة برائحة الغبار، إلى البائع العجوز -مثلًا- الذي لم يعجبني
سعر منتجه وقلت "بشوف المحل اللي جمبك وأجيك" ولم أجيء، أنا آسف لأنني
أدرك الآن وطأة الوعد الزائف، والانتظار.
لا أريد الكتابة، غير أن الكتابة تلح علي بأن أكتب، لدي العديد من
الأشياء التي وجب أن تقال لمن كان يجب عليه أن يعود، ولم يعد، فبقيت تجوس في صدري
ككرة ملتهبة مجنونة تذهب ضاربة جدران القلب بلا هوادة، تبحث عن مخرج، ولا مخرج
لها، إلا في الكلمات، لهذا: أريد أن أتقيأ الحرف، الآن، وهنا.
إلى من قال: "ترا أنا أتابعك بتويتر، كمّل، واكتب عني، مع
السلامة" قبل سنةٍ ونصف، أو ربما تزيد، ثم اختفى، هل ما زال ينظر إلى ما
أكتب، أم أنه تاه في الدرب وضعت من باله كما تضيع الحقوق في غزة، لا أعلم، ولكنني
أعلم أنني نسيته أيضًا، حتى هذه اللحظة التي أصبحت تحت وطأة اللهفة، بالمناسبة -إن
كنت تقرأ- فلا زلت أحتفظ بالسبحة، وأعتبرها أمانة.
وإلى من كان مجنونًا وصاخبًا، ثم انطفئ، وأدركت أن شعلته بدأت تخفت،
إلى حركاته الغبية، التي تضحك كل بشري، ولكنني كنت أحبه، إلى غيرته غير المنضبطة،
وقلبه النظيف، وحبه لأبيه، وتباهيه بشيءٍ لم يكن موجودًا لديه، أحب أن أخبره ردًا
على قوله ذات غضبٍ عني: "شخص كاتب وقارئ يقرأ لكل الكتاب، ولا صار صاحي زي
العالم" أنني لا زلت كما وصف، لم أصحُ إلى لحظتنا هذه، أحن إليه، ولكن طريق
العودة متعرج وصعب، ونهايته مخيّبة، لعل الغياب يحمل في طياته نوعًا من الحشمة
لكلينا.
وإلى من أخبرني ذات يومٍ عن حتميّة شخصيتي بقوله: "فكرت انك لست
المُلام هنا ولست المخطئ بل ذنبي انا، لذلك لا عجب ولا عتب عليك فهذا انت وهذا ما
نشأت عليه وتعرفه، ولا يمكنك تغيير ذلك لان المعرفة عملية تراكمية وليست قرار، شئت
أم أبيت انت ما نشأت عليه وهذا ينطبق على الكل لذا أود ان اقول ان رحلتي معك كانت
جميلة ومخيبة للامال ولطيفة وستكون ذكرى رائعة، شكرًا على كل شيء وعلى اللاشيء"،
وانتهت. أعلم أنني لن أستطيع أن أتغير، ولو كان باستطاعتي لن أريد، لأنه ماذا
يتبقى مني إن تلونت، ولكن بما أن المعرفة عملية تراكمية، فهذا يعني إمكانية
التغير، فالاكتساب يغير المعطيات، لكنني لن أناقش في هذا، أريد منك أن تكون بخير،
وتبتسم للغد باعتبار روعته المترقبة، وتحب الأمس بكل أخطاءه، وتقرأ كتاب قواعد
الإملاء لعبد السلام هارون.
إلى الجميع: لا شيء أمامي، سوى مستقبلٍ لا أعلم كنهه، ماذا سيكون بعد
ثلاثة أعوام؟ لا أدري. هل تصورت قبل ثلاثة أعوامٍ أنني سأكون وحيدًا الآن، في
زاوية غرفةٍ ما، في شقةٍ ما، أنقر على الكيبورد بلا توقف، وأتأمل الكتب بجانبي،
وأقلب رسائل قديمة؟ لا. ماذا أقول إن لم يكن للهاويةِ قاع، الحياة كذلك، أحببت
الجميع، وكرهت البعض، واعتبرت الصدق هو ما يمكن أن يراهن عليه، بمثابة الوزير في
قطعة الشطرنج، ثمة نية حسنة وراء كل ما يحدث، لعل خرائط القلب تخطأ أحيانًا وتدلنا
إلى ساحةٍ لا تطل عليها عيون الله خلاف ما كنا سنذهب إليه، يختفي هناك العدل،
ويحضر الظلم.
تمت.