نموذج الاتصال

التساؤل: نوع من التساؤل

 قال سيوران في كتابه (مثالب الولادة) أن التساؤل الأول كان بسبب رجل مهووس، أراد أن يقتل نفسه، ثم جاء من نسله بائسون(1). ظلوا يتساءلون، بحمى غريبة، وكأنهم يتسابقون إلى العدم، أو وُلدوا في الهلع، وحاولوا الاتساق في عالم فوضوي، وهتفوا هتافًا سلميًا في ظل تساقط الصواريخ، كل الأسئلة كانت عبثًا، وكنا نعبث كثيرًا حين بحثنا عن تعليل للمقدمات، وتناولنا أسلحة غير مؤمنة باعتباطية ساذجة، فكنا أول ضحاياها، لم نطع واسيني حين قال "ما معنى أن نفلسف الدنيا إذا كان كلما فتحنا بابا للأسئلة أغلقنا كل أبواب السعادة"(2)

لو قلنا أن اللامعرفة هي الأصل كما قال سيوران، البناء الأول يكون عليها، أفلا يكون الأصل أشرف من فرعه؟ بعيدًا عن الشواذ، والخروج عن القاعدة، ألم يكن من الأولى أن نستحضر الخطأ الأول، التعثر المقصود، أو الغواية المخادعة، حين تساءلنا عن الخلود، عن تعليل عدم الأكل من الشجرة، كان من المفترض أن نصمت في حضرة الأشياء التي نتنعم بها، فور أن بدأنا بتنقيبنا الأول، انزلقنا في سلسلة من البؤس، هي كالنافذة المسمّرة، أردنا أن ننزع مساميرها فأدمينا أصابعنا، أخيرًا حين استشرفنا المنظر، استقبلنا عالمًا من الجحيم حبسه الشباك عنا، وقادنا إليه الفضول. ألم يجر تساؤل بلومفيلد "ماذا سوف يحدث للبط عندما تتجمد البحيرة وأين سيذهب"(3) إلى سلسلة من الخسارات عقبته؟

مع كل جولة جديدة لتفسير اختفاء البط، كان اللغز يزداد تعقيدًا، السعي الحثيث لمعرفة ما وراء الوراء، يقتضي بعده أن نعرف ما وراء وراء الوراء، ضياع، لا غاية للوسيلة، ولا وجهة للطريق. وهذا شأن الأسئلة، كالدائرة، مذ أن تبدأ باكورة الاستفهام، يُغلَق كل باب للراحة. ربما أن المشكلة في تعاطينا مع المعرفة، ماذا لو تركناها تأتينا بلا سؤال، وأخذنا ما أعطت، وتركنا ما منعت، ألم يكن أجدى؟، أن نتمثل افتراض سيوران حين قال: "المفروض أن يكون اللامبالون، فاقدو الإرادة، الذين يتركون الأفكار على حالها، هم وحدهم المؤهلين إلى الوصول إليها. أما حين يستولي عليها ذوو الاهتمام، فإن الفوضى اليومية الهادئة لا تلبث أن تنتظم في شكل تراجيديا."(4)

 

1- ينظر: إميل سيوران، مثالب الولادة، ترجمة آدم فتحي، منشورات الجمل، 48.

2- واسيني الأعرج، طوق الياسمين، المركز الثقافي العربي، 63.

3- ج. د. سالينجر، الحارس في حقل الشوفان، ترجمة غالب هلسا، 24.

4- إميل سيوران، المياه كلها بلون الغرق، ترجمة آدم فتحي، منشورات الجمل، 52.




إرسال تعليق