نموذج الاتصال

وعد بلفور، والعنف الإسرائيلي

 

هذا الموضوع من المتشعبات جدًا، وكأنه نفق له ألف معبر، كل معبر يوصل إلى غاية مختلفة، بيد أن استقصاء سبب العنف الحالي يحيل الكتابة عنه إلى ضرورة حتميّة لاستخلاص نتيجة، أو على الأقل تفسير له.

يهمني الآن العودة -بشكل سريع- إلى ما قبل إنشاء دولة إسرائيل، في المرحلة التي كانوا بها بعض اليهود وعلى رأسهم هرتزل يدعون إلى الصهيونية وإقامة دولة تجمعهم، حينها ألف هرتزل كتابًا أسماه "الدولة اليهودية" كان يدعو به -كما هو واضح- إلى إقامة دولة يهودية، وقال فيه: "هل نختار فلسطين أم الارجنتين؟ سنأخذ ما يعطى لنا، وما يختاره الرأي العام اليهودي". ثم جاء وعد بلفور باختيار فلسطين، هي الشرارة التي آذنت بوجود مولود سيحمل بذور الرصاص الحي في مجاري دمه.

هذه الدعوة هي ما سيدور حوله معرفة ملامح المستقبل، أي أنها مكمن أساسي في تفسير كل حركة آتية تقوم بها الصهيونية، لأنها جعلت من إسرائيل دولة وفق اشتراطات دول أخرى، فاقدة لمبدأ التفكير المنهجي في رسم امتلاك الأراضي.

كان الحاخام يهودا ماغنس (1877-1948) يندد بوعد بلفور، ويعلل تنديده بأنه إذا أصبحت إسرائيل تحت جناح الدول الكبرى تملي عليها ما تفعل وما لا تفعل، سيكون من اللازم عليهم تنفيذ الأجندة، ولن يكونوا أكثر من قتلة بأيديهم. ولكنه وافق في نهاية الأمر على الاستقرار بفلسطين في 1922م وأصبح رئيسًا للجامعة العبرية، بيد أنه حين استقر في حي الحسيني -أحد أحياء القدس- نظر إلى بشاعة الاحتلال ودموية الأفكار، فخرج في الذكرى الواحدة والثلاثين من إنشاء الجامعة وقال في خطابه:

"إن الصهيونية تحاول أن تضع الشعب اليهودي كله تحت نفوذها بالقوة والعنف، وإن الحظ لم يسعدني بعد لكي أسمع من أفواه معارضي الصهيونية رأيهم الصريح بأولئك الأشخاص الذين نصبوا أنفسهم مدافعين وحماة عنهم. إنهم قتلة. إنهم عصابة من الرجال والنساء. وجميع يهود اميركا يشاركون هؤلاء الجرم، حتى أولئك الذين يجهرون بمعارضتهم لأعمال القيادة الصهيونية الوثنية. لأن واجبنا يقتضي بأن لا نظل مكتوفي الأيدي."

ثم سافر من إسرائيل عائدًا إلى نيويورك. وفي نيوروك طلب من "JDC" -وهي منظمة أمريكية تقدم المساعدات في فلسطين لليهود- أن يقدموا بعض المساعدات إلى العرب، ولكنهم رفضوا، فانسحب منها وبرر بأنه لن يستطيع أن يكون في منظمة تتجاهل الواجبات الإنسانية، وأدرك حينها بشاعة البدء، وبشاعة المآل الذي تذهب إليه الصهيونية.

كان على نفس الخط أعضاء منظمة بريت هشالوم (1925-1948)، وأصدرت المنظمة بيانًا قالت فيه "إن منظمة بريت هشالوم في موقفها المناهض للرعونة التي سرت في عروق القيادة الصهيونية منذ إعلان تصريح بلفور، تعلن ولاءها وتمسكها بنظريات آحاد هاعام" أي أنهم حددوا بدء الرعونة بوعد بلفور، وأما آحاد هاعام (1856-1927) الذين أعلنوا بأنهم يتمسكون بنظرياته، فهو كان ممن دعا إلى الدولة اليهودية، ولكنه بعد أن بدأ الصهاينة في السيطرة على فلسطين، استشرف ما ستؤول إليه الأمور، وأثناء ارتكاب جرائمهم الأولى -ليست على حجم ما يحدث الآن ولكنها الشرارة- آمن بأن مساهمته بابتكار هذا النظام، كموقف علماء الفيزياء إزاء ابتكار النووي، لم يكن على توقع بأنه على موعد مع كل هذا الشر، حتى قال في عام 1922م معلقًا على قتل جماعة من الصهاينة لعربي: "إن كل الأسس التي أقمت عليها تصوري لليهودية والصهيونية قد تهاوت كما يبدو. أيها الرب العظيم هل هذه هي نهاية كل شيء، هل عدنا إلى صهيون كي نلوث هذه الأرض بدماء الأبرياء؟".

في الختام: أكتب ما أكتب، لا للتشفي منهم -على الرغم من أن هذا باعث وارد- ولكنني أريد توضيح أن سبب العنف الإسرائيلي لأنها نشأت بوصفها تحقيق لمبدأ إمبريالي غربي، والحوار معها، ومحاولة أنسنة قضاياها، لا أظنه يجدي، لأن سبب العنف القابع وراء هذا النظام عنف مفاهيميّ، جزء من تركيبته، كأنك تقول للثعلب لماذا تمكر، أو تقول للخنزير لماذا أنت قذر. هي عقيدة تأسس عليها الشعب الإسرائيلي وهاجر إليها كما قال ماغنس "هذه الهجرة التي تقوم بها الحركة الصهيونية، يمكن تسميتها هجرة إمبريالية، تقودها صهيونية إمبريالية، عسكرية". وأن إسرائيل ستظل تَمَثُلًا لأنانية طفل يأخذ ألعاب الآخرين ثم يصرخ ويقاتل احتجاجًا إن حاولوا استردادها، ولهذا قال الفيلسوف الصهيوني مارتن بوبر (1878-1965) أن إسرائيل ليست سوى تبرير لأنانيتنا الجماعية.

انتهى.

 

للاستزادة:

الفريد ليلينتال، ثمن إسرائيل، ترجمة حبيب نحولي – ياسر هواري.

يونس أبو جراد، التيارات الهيودية الرافضة للصهيونية، رسالة ماجستير غير منشورة.

تيودور هرتزل، دولة اليهود، ترجمة مؤسسة الأبحاث العربية.


"يهودا ماغنس ومارتن بوبر يدلون بشهادتهم في لجنة التحقيق الأنجلو أمريكية في القدس عام 1964م".


إرسال تعليق