نموذج الاتصال

تسليم الإرادة

"عندما ندخل حالة التأمل الخالص، فإننا نسمو للحظة قبل كل شيء على الإرادة"

- بيونغ شول هان

عمل لـ"Saul Leiter"


قبل فترة ليست بالبعيدة قررت أن أحيا ثنائية الجمال والقبح بتطرّف، صحيح أن ابن غنام يقول "كلا طرفي القصد مذموم" ولكنني أريد أن أجرب ما يحدث، فتوغلت فيهما بأصنافهما، ففي الجمال أبقى لساعات لا شأن لي إلا أن أنظر إلى معرض (Saul Leiter) وأتابع فيلم لحركة المرور في القاهرة خلال الستينات، وخلال ذلك أستمع لما تشتهيه النفس، وحين أود أن آكل، فلا أتنازل عن أفخر طعام قد أجده. وأتوغل في القبح، من مشاهد لا ينبغي أن تعرض للعامة، وموسيقى تصيبني بالاشمئزاز الشديد، وأفلام رديئة جدًا بصنعتها وكوميديتها وممثليها.

ووجدت أخيرًا أنني في كلتا الحالتين أكون منساقًا وراء المشاعر، لا يهم ما ماهية هذه المشاعر، قد تكون حنين، أو حب، أو قرف، أو كراهية، ولكنني في جميعها لا أسيطر على قلبي ونفسي، أنا منساق انسياقًا كاملًا وراءها. والجمال والقبح تؤام في هذا، قد لا يكون الثاني محببًا للنفوس، ولكنه التأثير المصاحب للأول، وربما مع طول المعاشرة يسيطر على النفس حتى لا أستطيع الفكاك منه، أبقى وراء أسواره وفي خضم معانيه، وخلال ذلك شعرت أنني غادرت دائرة الاتصال البشري، أحدق بصحنٍ ما مزركش أو عبارة مكتوبة على جدار، مستمر في البحث عما يلفت في جنبات الأمكنة دون ما هو في المركز، وعلى رأي نزار: "عبدوا الجمال، وذوبوه، وذابوا". وهذا الشطر، يجب -على الأقل- أن يفسر ثلاثة أرباع الذوبان مع الاستطيقا، أن يفسر كيف أن الكل انصهر في الآخر، وضريبته الطاعة العمياء لما ذبنا فيه وذاب فينا، يسيرنا القدر بذات القدر.

 

أعرف رجل يحب الأكل اللذيذ، إلى درجة أنه أسبوعيًا يسافر من مدينتنا إلى مدينة أخرى فقط ليأكل، وهذا سهل التصديق ومستساغًا في الجمال، ولكن هل يوجد من ذاب في القبح؟ سألت رجل أعرفه عن أناس عايشوا القبح وذكر لي قصّة عن رجل كان يشتغل في الصرف الصحي لفترة طويلة جدًا، وحين تقاعد عن العمل بقي في منزله توقد زوجته البخور في الصباح ويرفل باختلاط عطور أبناءه في المساء بعد الروائح القاتلة في عمله السابق، بعد فترة أحس بصداع مجهول المصدر وذهبوا به إلى طبيب وبعد أن استعرض سيرة صاحبنا المصدّع، قال لأهله "ودوّه لبيارة يشمها". فهو لم يدمن القبح، ولكنه أدمن الشعور المصاحب له، كما أن الجمال له شعور الحب والانجذاب، فالقبح له ذات الشعور لو أردنا التحديد، والفيصل في كل هذا أن تقبع تحت تسيير شيء آخر هو أقوى من إرادتك.

 

قد يبدو كلامي غريبًا حين أقرر بأننا نعشق الأوضاع التي تتلاشى بها إرادتنا، ولكن لننظر لكثير من المشاعر التي نحبها، أخبرني لماذا نتابع فيلم رعب ونحن نعلم أنه في لحظة من اللحظات سيخرج شبحًا من التلفاز فيهلع البطل ونهلع، ونظل طوال اليوم -بعد هذا الفيلم- نراقب الظلام القابع تحت السرير ونلتفت كل نصف دقيقة والرعب يملأ أفئدتنا، أو لماذا كافكا هو الروائي الأكثر شعبية رغم أن رواياته تنطوي على سوداوية ما، فمثلًا في رواية المحاكمة يُتهَم رجل ظلمًا ثم يحاول أن يبرأ نفسه طوال الرواية، ولكنه يفشل وينفذ به حكم الإعدام ثم يصيبنا شعور عدمي اتجاه الحياة والعدالة وقلوب البشر. 

نحن نبحث عنها لأنها من جهةٍ تجعلنا مرهفين جدًا والجمال يحتاج أن يكون صاحبه مرهفًا وهشًا "من المستحيل أن نرى بشكل مختلف دون تعريض أنفسنا للإصابة. فالرؤية تستدعي القابلية للخدش، وإلا فإن الشيء نفسه يعيد اجترار نفسه. الحساسية هي القابلية للخدش." (بيونغ شول هان، خلاص الجمال) فهذه المشاعر تنطوي تحت ذات المظلة التي بها الجمال من هذه الزاوية، وسبب هذا لأنها تجعل ذواتنا تتضاءل حتى نصبح من الهشاشة أن نتناسى وجودنا وتتولى هي زمام الأمور ونستريح للحظات في ظلالها بعد أن نسلم لها الإرادة كما نفعل إذا صادفنا الجمال.

إرسال تعليق