نموذج الاتصال

الأرواحُ المنقسمةُ والحبُّ: ابنُ داودٍ وابنُ حزمٍ.

 

ألف ابن داود الظاهري كتابًا في الحب أسماه "الزهرة" وبعده بسنوات ليست بالبعيدة ألف أيًضا ابن حزم الظاهري كتابًا في الحب أسماه "طوق الحمامة"، وبين ابن حزم وابن داود حصل النقاش الكثير في قضايا العشق، بين ما فكر به الأول وعاشه الثاني، فكان هاجسي وأنا أقلب صفحات كتبهم وبيدي كوب القهوة أن أعرف ما هذا الحب الذي يسبر أغواره فقيه بغداد وفقيه الأندلس، وهل هم في خضم حبٍّ غير ما نحياه الآن، هذا الذي يتحدث عنه نزار ومغامراته أو درويش وعشيقاته، أو أننا أمام حب أنقى، حب آخر لم ندرسه، ولم نسمع عنه، حب طهري يليق بمن تضرب لهم كبود الإبل ليسمع عنهم كلمة في فرع فقهي.

ولم يخب ظني حين لوَّحت لي في بدايات الزهرة وطوق الحمامة مسألة التقسيم، والتقسيم بكل يسر هو ما يقوله العاشق لمحبوبته في جلسة صفو "لقيت فيك نصفي الثاني" أو أي شيء من هذا القبيل.

 

التقسيم

يقول ابن داود "وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَفَلْسِفِينَ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَلَقَ كُلَّ رُوحٍ مُدَوَّرَةَ الشَّكْلِ عَلَى هَيْئَةِ الْكُرَةِ. ثُمَّ قَطَعَهَا أَيْضاً، فَجَعَلَ فِي كُلِّ جَسَدٍ نِصْفَاً، وَكُلُّ جَسَدٍ لَقِيَ الْجَسَدَ الَّذِي فِيهِ النِّصْفُ الَّذِي قُطِعَ مِنَ النِّصْفِ الَّذِي مَعَهُ، كَانَ بيْنَهُما عِشق لِلْمُنَاسَبَة الْقَدِيمَةِ. وَتَتَفَاوَتُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي ذلِكَ عَلَى حَسَب رقة طبائعهم." وهذا الحديث قديم في الفلسفة لم ينفرد به ابن داود، على أن السياق الذي ورد فيه لا يقتضي أن يكون هو رأي ابن داود بذاته، ولنعود قليلًا ونرتدي نظارة التاريخ لنفهم هذا القول الذي حصل في مأدبة أفلاطون، وأنقل الحديث هنا عن ليوتار -الفيلسوف الفرنسي- من كتابه لماذا نتفلسف حين يقول "إنها لقصة مطوّلة جدّا، هكذا قالت. ومع ذلك فسأرويها لك. يجب أن تعلم أن اليوم الذي ولدت فيه أفروديت كانت الآلهة تقيم مأدبة وكان بوروس ابن متيس من الحاضرين بينهم. وعند انتهاء المأدبة، جاءت بانيا تستجدي وجلست أمام الباب. غير أن بوروس الذي كان ثملاً بعسل الزهر -بما أن الخمرة لم تكن موجودة في ذلك الزمان- كان يجرّ رجليه في حديقة زوس، ولما كان في حالة سُكرٍ فقد استسلم لنوم عميق. وحينئذ، وبسبب الفقر، تآمرت بانيا مع بوروس على أن تُنجب طفلا من إيروس فاضطجعت إلى جانبه وحملت منه".

 

فكما تعرفون أن إيروس إله الحب عند الإغريق، فهو إذن ابن لبوروس وهو يمثل الجزء الإلهي منه وأمه بانيا متسولة وفقيرة، فهو لديه جزئين، وتبعًا لذلك يعلق ليوتار على القصة قائلًا "فإن الرغبة رجل وامرأة في نفس الوقت، إنها مثل الحياة والموت. وهذا يعني في نص أفلاطون أن الزوج المتضاد حياة-موت هو على الأقل وإلى حد ما متماثل مع الزوج المتضاد ذكر-أنثى" فالقصة كلها تدور حول الرغبة والحب، في أنه أصبح مزيج أصلي من أشياء متناقضة، فنحن نعلم أن الرجل والمرأة جنسان متناقضان، إلا أنهما يتفقان بالأصل من حيث إنهما جنس بشري، وهذه هي فكرة الحب التي طرحها ابن داود، فهي أصلًا عائدة على نوع واحد (الروح التي على هيئة الكرة) ولكنها تصبح فيما بعد متناقضة حين تنقسم إلى قسمين، فيصبح الرجل يحتاج إلى الأنثى والأنثى تحتاج للذكر، لأنهما من أصل واحد.

 

ولكن ابن حزم عارض القول السابق حين أدلى بدلوه في طوق الحمامة في ماهية الحب: "وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع، لا على ما حكاه محمد بن داود" فابن حزم هنا نسف نقل ابن داود، وهو هنا يرجح أن الإنسان -والجزء اللامادي على وجه الخصوص- ليس مجملًا كليًا بل هو إنما مركب من تفاصيل صغيرة ودقيقة، بين العاطفة والعقل، ونفوس كثيرة ترتع في هذا الكيان، كما يقول هيوم عن العقل أنه "مجموعة من الأفكار والانطباعات والذكريات تتابع في حركة عجيبة تأتي وتزول ويحل محلها غيرها وتعدو إلى الظهور مرة أخرى." شيء من التغير المستمر والتعاقب بين ما يحدث وما حدث والذي سيحدث، هو مجموعة انفعالات ليست ثابتة ولا تملك الثبات أبدًا.

 

ويقول إحسان عباس تعقيبًا على هذا الخلاف بينهم "والفرق بين رأي ابن حزم ورأي ابن داود هو في القسمة نفسها، فبينما يذهب ابن حزم إلى أن النفوس تجزأت عدة أجزاء، يرى ابن داود أن الكرة انقسمت نصفين وحسب، كل منهما يطلب صاحبه، وفي نهاية المطاف نجد ابن حزم الذي لا يؤمن بالتكثر، يأخذ برأي ابن داود من وجهة عملية؛ لماذا رفض ابن حزم الشكل الكري للأرواح؛ هذا ما لا يقدم تفسيراً له؛ هل كان ابن حزم يرى تعدد التوق إلى ائتلاف الأقسام في مراحل مختلفة من العمر؟".

 

وهذا رأي معتبر من شيخ المحققين، ولكن الأمر الأكثر تأثيرًا أن رأي ابن حزم في هذه المسألة ليس مرتبطًا بهذه الجزئية فقط، وإنما في ما بعده يقول ابن حزم "وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال، والشكل دأبًا يستدعي شكله، والمثل إلى مثله ساكن، وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تشابه موجود فيما بيننا، فكيف بالنفس وعالمها العالم الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهر الصعاد المعتدل، وسنخها المهيأ لقبول الاتفاق والميـل والـتـوق والانحراف والشهوة والنفار، كل ذلك معلوم بالفطرة في أحوال تصرف الإنسان فيسكن إليها" أي أن ابن حزم كان يرى أن النفوس تتجاذب بقدر التشابه بينما الرأي الذي أورده ابن داود كان يرى أن النفوس تميل إلى ما يناقضها، وهذا جانب من المعارضة.

ولا زال الأمر يدور إلى الآن على موائد الحديث بين عامة البشر أنه هل يقيم رباطه المقدس مع من يخالفه أو يوافقه؟ هل يبحث عمن يتفق معه بمجاله ليوجد القواسم المشتركة بينهم وحبال الود الممدودة، أو يبحث عمن يخالفه ليوجد الدهشة في حياتهم حتى تحلق عنهم الرتابة بعيدًا بعيدًا؟

 

في ختام هذه التدوينة

لكل رأي مسوغ ولو لم يكن يوافق ما أعتقده أو تعتقده إلا أنه يبحث جزءًا من النفس البشرية، ولو لم يكن من هذه الأقوال في الحب إلا أنها بدت مختلفة عن الآراء التي تطرح في روايات السوقة وترويج المشاهير، وبدت راقية في خضم امتهان الحب من عبارة "ارفع الخفاق الأصفر" إلى إرسال (الإيردروب) من شخص رأسه مربع في مقهى يضج بالموسيقى وكأنه سيارة أجرة مصرية.

 

 

المصادر:
1- ابن داود الأصبهاني: الزهرة، تحقيق د. إبراهيم السامرائي.

2- ابن حزم الأندلسي: طوق الحمامة، تحقيق د. إحسان عباس.

3- جان فرانسوا ليوتار: لماذا نتفلسف.

4- ديفيد هيوم: رسالة في الطبيعة البشرية.




2 تعليقات