نموذج الاتصال

صغير تاه من أهله

"قد أمست أوقات دخول المساء أكثر كآبة، وأصبحتُ أقل حيوية في ساعات الصباح، وصار المشي في الغابة أقل إمتاعا، وخلال ساعات العمل في آخر فترة ما بعد الظهيرة كانت تمر بي لحظات يتملكني خلالها نوع من الهلع والقلق الذي لا يدوم سوى بضع دقائق، ولكنه يأتي مصحوبا بغثيان شديد"
- المكتئب الأكبر وليام ستايرون
 
كلنا رأينا الطفل الذي يركض وهو يصرخ بصوتٍ يخترق الإذن الوسطى لأنه تاه عن أهله، ويظل يبكي ويبكي، يحاول الناس من حوله تهدئته "خلاص يا حبيبي أهلك موجودين ويبون يجون" ولكنه ينظر إليهم بعيونٍ تملأها الدموع قبل أن يطلق صفارات الإنذار مرةً أخرى.
بكل اختصار: هذا هو من أضاع نفسه -ربما محدثكم.-
 
الآن وصلتني رسالة من تطبيق للصحة النفسية تصرخ بي "قاوم إياك أن تذبل، لابد أن تزهر من نفسك أولًا" وعلى الأغلب من كتبها يحتسي قهوته على مكتب وينتظر أن يفرغ من دوامه قبل أن يخرج إلى أصدقائه، لم يعِ أبدًا طوال حياته معنى أن يغترب المرء عن نفسه، لم يعِ، ولن يعِ، ولهذا حذر بكل فجاجة "إياك أن تذبل"
قد ذبلنا يا أستاذ قبل أن ترسل هذه الرسالة، أو بالأحرى قبل أن ترسل سيرتك الذاتية إلى التطبيق ليوظفوك.
 
قبل سنواتٍ طويلة كنت أعلم ماذا يعني أن يكون لدي وقت فراغ وأود أن أقضيه بشيءٍ يجعلني أبتسم، إن كان في رأس نازية لوحدي مع كاسة شاهي، أو في زاوية مقهى مع الشلة، أو بأحد الشوارع في مدينة الدمام الجميلة وأنا أنظر للرايح والجاي بتندر مرة، وأخرى بإكبار، وربما نظرت بإعجابٍ.
 
الآن والله لا أعلم كيف أتعامل مع نفسي، لا أعرف ما أصنعُ لنفسي حين أود أن ألهو، أضعت طرائقي القديمة، كل شيء كان من الممتع أن أفعله قبل سنوات أصبح الآن ليس ممتعًا ولا قالها الله.
 
الأمر أقرب إلى رجل كان يعرف المطاعم الجيدة حق المعرفة، ويوصي الشيف بالبهارات التي يحبها والصلصات المفضلة له من شدة حذقه بالطعام، وفي ذات زيارة للمستشفى أخبروه أنه مريض ضغط وينبغي أن ينقطع عن بعض الأشياء ومنها الأكل المالح، بعد مدة بسيطة سيكره هذا الطعام السَمِج، ولن يستطيع أن يأكل الأطعمة اللذيذة التي كان يأكلها قديمًا، فأصبح الاستمتاع بالأكل شيء خارج دائرة حساباته وإنما هو تقليد اعتاد أن يمارسه ليحيا، كذلك أنا.
 
أحيا أيام تخلو من الملوحة، وألوانها أحادية كأنها لوحة لرسام فقير منعه العوز من استكمال أدواته، ربما ما بي الآن نوبة اكتئاب ستمر وتترك خلفها كل هذه المشاعر، لا أعلم.


إرسال تعليق