نموذج الاتصال

عن الفوضى | غُرَف الكُتَّاب

  

بعد انتهائي من بحثٍ طويل قد كتبته على فترةٍ طويلة، كانت الغرفة تعج بالكتب المرمية على الأرض، والتي على المكتب، وبضع أكواب هنا وهناك، فمرّت أمي عابرة ونظرت إليها -رغم أني اجتهدت بإخفائها تحت الستارة- وقالت "وش هذا" بصوتٍ أشعرني لوهلة أنني سلمت مفاتيح قرطبة لألفونسو، فاعتذرت بأنني أطلب العلم، والعلم يا أمي مُقدس ولو أدى إلى أمرٍ جلل، كأن تصبح غرفتي مبعثرة مثلاً.

يظهر أنني حاولت إخفاءها، ولكن باءت محاولتي بالفشل.


وجلست على مكتبي أفكر لوهلة، هل من الممكن أن يكون الكاتب مكتبه مُرتب؟ وكان الأمر أقرب إلى وضع غسان كنفاني وشمعون بيريز على طاولةٍ واحدة. أي أنها متناقضات لا يمكن أن تجتمع في آن..


وبالمناسبة أنا لست أفضل من دافنشي، الذي كانت غرفته "مليئة بالسحالي، والحشرات، والصراصير، والأفاعي، والفراشات"* فالحمدلله إلى الآن غرفتي -على حد علمي- لا يوجد بها أفاعي، أو سحالي. هي بضعة كتب لمراجعة بعض الورقات التي بين يدي والإضافة إليها من فكر هؤلاء العظماء، وليعذرني العظماء أنني وضعتهم بهذه الطريقة المزرية.


وأساسًا لنتحدث عن أمرٍ ما، هل يمنعني هذا من أن أكون عظيم؟ هل يذكرون العظماء بقولهم "كان سديد الرأي، حازم الطبع، عبقريّ الفكر، وغرفته مرتبة" لا أعتقد! لن يثني أحد على نظافة غرفتي في كتب التاريخ، ولن يقف أحد في المقبرة ليُذَكِّر بمحاسني ومنها أنني أطوي غِطاء سريري يوميًا -رغم أني أفعل-


وإن لم يكفي دافنشي، فديل كارنيجي الذي تمكن من تغيير حياة الملايين وكان يعقد الدورات لكبار الأثرياء في العالم، يذكر أنه كان يعيش "داخل غرفة حقيرة بشارع ستة وخمسين الغربي، غرفة تغزوها الصراصير باستمرار وبأعداد كبيرة."* وهذا لم يغير من مكانته الأدبية أو الثقافية، فغرفته لا دخل لها بفكره.


لا أتصور أن يعتني الكاتب بهندامه، أو بنظافة سيارته، أو يهتم بشكل الكوب الذي يشرب به قهوته، الأشياء هذه لا تعدو أن تكون شكلية ورتيبة، حتى أنه ثمة كاتب كان يقول "اشتقت للملابس اللطيفة" ما يبلور الحياة حقًا هو أن يكون النتاج يستحق الاحتفاء به، هل قام بهِ بالشكل المطلوب، هل وضع الحركات بأماكنها المطلوبة -إن كان عربي طبعًا- أو قسّم علامات الترقيم تقسيم صحيح، يتأكد من أن الفكرة ستصل لعقل القارئ ببساطة، أو أحيانًا يتأكد أن القارئ لن يفهم الفكرة لغموضها -هذه أعتقد يقوم بها سارتر ومجاهد عبد المتعالي- وأما شكل المكتب، فآخر أولوياته!


طيّب، لنقل أن ديل كارنيجي لم يغير شيء في العالم، إذن أينشتاين؟، فعلاوةً على شعره الذي يشبه نافورة "سيوتو مايل" فإن مكتبه لم يكن يقل عن نافورته -عفوًا شعره- فوضى. والصورة التي التقطت لمكتبه بعد وفاته مباشرة تؤكد على ذلك، وذكر عنه أيضًا أنه يوزع أطباق معدنية على أرضية غرفتها لكي تقع الملعقة إن استغرق في النوم فيصحو بعملية غريبة.

مكتب أينشتاين، وكما يتضح أن مكتبي المبعثر أشبه بأناقة القصر البريطاني أمام مكتبه الذي هو أقرب إلى زقاق من أزقة المكسيك.

فهذا هو مكتب الكاتب وغرفته: مسوّدة قد عدل عليها، وورقة لم تكتمل، وهنا مرجع قد يحتاج إليه لاحقًا، وكوب قهوة يرتشف منه ببطء لكيلا ينتهي قبل أن ينتهي من تدوين فكرته كاملة. أما الترتيب فتركه للفنادق وأرباب الإتيكيت.


وهذا لا يعني أن الكاتب يكره غرفته، فرغم هذه البعثرة لو طلب منه أن يتخلى عن ركام الأشياء من حولهِ لما وافق ولحرن كما يحرن الحصان العنيد، وتذكر زوجة دوستويفسكي -آنا- "كان علي أن أقنع زوجي بضرورة رهن الأثاث" ورفض هذا الأمر، ولكن آنا ذرفت عنده الدموع، وقلوب الكُتاب (رهيفة) فلذلك وافق على ما تطلب.


كل هذا الكلام ليس له قيمة عند الأمهات، وها أنذا أحمل كتبي ذاهبًا بها إلى المكتبة الرئيسية في البيت لترتيبها كما أرادت مني (نبع الحنان.) والعُقبى لي أن أرتبط بزوجة تقدر هذا التجلي الأدبي وتحافظ على بعثرتي المقدسة.


* من كتاب وراء كل عبقري قصة معاناة

* من كتاب كيف تتخلص من القلق وتبدأ حياتك


إرسال تعليق