نموذج الاتصال

رفض الأديب بعدة صور


قالت غادة السمان (1942 - ...) عن رافع الناصري (1940-2013) «الرفض والرغبة قطبان، والفنان رافع بينهما كوتر مشدود عنيف الإيقاع، شراسة الرفض لديه تعادل شراسة الرغبة «

 

توقفت عند هذا المعنى كثيراً وبت أرقب الأبيات والنصوص من حولي ووجدت الكلمات الرافضة هي الأبقى ومن سقط في وحل المهادنة سقطت كلماته في جب النسيان، ولجت إلى أبيات نزار قباني (1923 - 1998) لأرى قوله «أنا لست مكترثاً ... بكل الباعة المتجولين ... وكل كتاب البلاط ... وكل من جعلوا الكتابة حرفةً« نتوقف قليلاً لنتأمل مَنْ هم الذين رفضهم نزار؟ إنه على أقل تقدير يرفض الجميع، من الشعراء إلى الكتاب، بل وحتى الباعة المتجولين لم يسلموا، ومن سمات شعراء الرفض التي تميز شعرهم عن غيرهم هو أنهم يوقدون النار بالهشيم، بل ويزيدونها قازاً وزيتًا، فقال نزار ذات مرة عن المتنبي «بحثت طويلاً عن المتنبي.. فلم أر من عزة النفس إلا الغبار» وهو يعلم بما لا يدع مجالاً للشك أنه قد يتعرض للشتم والسباب والنقد الجارح جرّاء هذه (الصراحة) المتجلية بشعره والتي قد يراها كل مهزوز (وقاحة)، ولكن نزاراً يحيا على حالة اللامبالاة، عدم اكتراث بكل سكان المدينة، ويُغالي بهذه الحالة إلى أنه يصبح يستهوي لعنه بقوله «ولُعنت في كل اللغات.. وصار يقلقني بأن لا ألعنا«


وقريباً من ذلك مررت على أبيات لبدر شاكر السياب (1926-1964) يرفض بها الفقر الذي كان يُخيّم على محيطه ويلهب حماسه فيقول «من أيما رئةٍ؟ من أي قيثار.. تنهل أشعاري.. من غابة النار؟ «فهو يرى أن لا مورد عذب للقصيدة ولا نهرٌ ترتشف منه القوافي، لا يوجد أمامها إلا الغوص بأعماق البراكين لإشباع حاجتها الملتهبة، هذا ليس استنطاقاً بقدر ما هو تعبير عن واقع النص المكتوب، وفي الإطار النظري من الممكن أن نحدد علاقة السياب بالموت والحرب والتشرد، وكما نعلم أنه لم يكن على تخوم المعاناة بشكلٍ مباشر وإنما كان يعيش ويكتب للوجدان الإنساني العام، هو رافضٌ لواقعٍ لا يعيشه.


وعندما نتحدث عن الرفض والتحدي فنحن نتحدث عن عدنان الصائغ (1955-...) وهو القائل «ضعه فوق السندان واطرقه بلا رحمة.. اطرقه.. اطرقه» إذا تحدث الأديب ذات مرة عن السندان والمطرقة فسينظر له من قبل أدباء الوردة والقبلة الغرامية نظرة شزر وامتعاض، سيقولون ما هذا الأرعن الذي يريد اقتحام غابة مشاعرنا وقطع أشجار الهوى، ولكن الذي لا يعرفه هؤلاء أن الأديب ثائر، لا يعترف بحدود وأطر وإن وجدت، وقال الصائغ قبل ذلك أنه خارج على حدود الزمكانية «أنا خارج من زمان الخيانات« فهو لا ينتمي إلا لعصرٍ واحد، ويتباهى به أيما مباهاة، وهو عصر الشرف، ويزيد على ذلك رفضاً بقوله «ولكنني من خلال المدافع.. أرفع كفي معفرة بالتراب المدمّى.. أمام عيون الزمان.. أعلمه كيف نحفر اسماءنا بالأظافر.. كي تتوهج (لا)» رغم الحرب والأطلال المحطمة ومدافع الغزاة وفوهة المدرعة التي تخطو على الجثث وهو يستلقي على التراب الملطخ بالدماء يصر على كتابة (لا) هذه صيغة الرفض الأولى (لا)..


وختاماً لا يرتفع الأدب بواسطة سواعد أولئك الرقيقين جداً، من ينعمون بفرشٍ وثير ويكتبون عن حلاوة القهوة الصباحية ويصفون العناق اللذيذ، بل الأدب خلق لمن يقولون الحقيقة، إن الأدب بعبارة وجيزة: (كتابة الحقيقة المروعة بروعة.)



- نشر في مجلة اليمامة

______



إرسال تعليق