نموذج الاتصال

طريق آخر


عندما أُخِذَ ألكسندر بيتروفيتش -من رواية مذكرات من البيت الميت- إلى السجن أصبح في عالمٍ آخر هو أقرب إلى عالم الأموات منه إلى الأحياء. أصبح منعزلاً في مكانٍ يراه يختلف تماماً عن العالم الخارجي ويقف موقفاً مضاداً له وبعيداً كل البعد عن الحياة التي نحن في خضمّها نعيش


ولذلك كان يصف المشهد في مذكراته «كان سجننا يقع في طرف القلعة، قرب متراسها بالذات. إذا اتفق أن نظرت عبر فروج السياج إلى دنيا الله، لعلك ترى على الأقل شيئاً، لن ترى غير طرف السماء، ومتراس ترابي عالٍ، تكسوه أعشاب طفيلية طويلة، وعلى المتراس ذهاباً وإياباً يتمشى الحراس، فتفكر عندئذٍ أن سنين كاملة ستمضي، وأنت على هذا النمط بالضبط ستظل تنظر من خلال فروج السياج نفسه، وترى المتراس نفسه، والحراس أنفسهم، وطرف السماء نفسه، ليست تلك السماء التي فوق السجن، بل سماء أخرى بعيدة وحرة»


يتحدث ألكسندر الحياة خارج عالم السجن، ولكنه لم يذكرها بصفتها امتداد إلى ما داخل السجن، ولكن بوصفها شيء مغاير لعالمهم، بوصفها (الدنيا) وكأن السجن ليس في الدنيا، وعندما يصف السماء كان يقول «سماء أخرى» وكأن السماء التي يحيا هو تحتها ليست متصلة مع سماء الدنيا.


وبالتالي ذهب الكثير إلى أن العزلة في حياة المرء طريق آخر، عالم آخر، ليس شرطاً أن يكون عالماً للأموات، أي في سجنٍ أو مقبرة، بل قد تكون في بيتٍ ريفي أو بمنزل في منتصف مدينة تضج بالحياة، ولكن الفصل هنا بين العالم والعالم الآخر هو الاختلاف عن الواقع السائد ولذلك عندما نتحدث عن الفلاسفة أو الأدباء بوصفهم من عوالمٍ أخرى يرون بها شيئاً من النادر أن يراه الفرد العادي ويؤكدون عليه فهذا ربما لانفصالهم عن العالم السائد الذي نحن به كما نراه وكما يصفونه.


ومن ذلك عزلة الفيلسوف فريدريك نيتشه، فمرت عزلته في مرحلتين كان أولهما الانعزال الجزئي، لا يقابل إلا القليل جداً من الأصدقاء في فتراتٍ متباعدة، والغريب أنه يرغب بأن تستمر انعزاليته إلى ما بعد الحياة، ففي مقدمة فليكس فارس من كتاب هكذا تكلم زرادشت ذكر أن نيتشه حين مرض في عام ١٨٧٩ أرسل لأخته إليزابيث «إذا مت فلا يقف حول جثماني إلا الأصدقاء، ولا يزورني إنسان فضولي» فعاش حياته مؤمناً بهذا المبدأ.


ولكن كانت العزلة الحقيقية -وهي المرحلة الثانية- التي أصبح بها وحيداً تماماً، حدثت في عام ١٨٨٦ حين تزوجت أخته إليزابيث وذهب الإنسان الذي كان يتحدث معه ويؤمن به كصديق ومؤنس وحدته، فحاول أن يعوض هذا الأمر في الزواج وتأسيس العائلة واختار (لو سالومي) كخليلةً له، ولكنها رفضته لتتزوج (تشارلز أندرياس) فأصبح وحيداً تماماً حينها، وما أتعس الإنسان حين لا يجد من يشاركه كوب قهوته أو منجزاً أنجزه أو أمراً محرجاً حدث له، يدور الحديث في صدره ولا يجد له أذناً تصغي إليه ولا عينًا ترقبه وهو يشكو مما يقاسيه.


وذهب الكثير من الباحثين إلى أن جنون نيتشه كان المسبب له هو الوحدة الشديدة التي كان يعيشها «ذكر كولن ولسن في حديثه عن وليام بلايك إن زوجته كانت تملأ حياته، وكانت تؤمن به وبعظمته، ولو وجد نيتشه امرأةً تؤمن به حتى النهاية لأنقذته من الجنون» 


ولكن الجنون والاضطرابات والعزلة في حياة نيتشه لم تكن تدمره، بل أنها صنعت منه نيتشه الذي نعرفه، كان يحيا في قلاقل لا تنقطع، إضافة لمرضه منذ مراهقته، ومن ثم رفض النساء له، كل هذه الأسباب منحته ثيمة (رفض) أو عدميَّة ما، فالجنون والعزلة والاضطرابات المختلفة التي كان يحياها نيتشه ما هي إلا لمسة جمالية تضاف على نصه، وقال فؤاد زكريا من كتابه (نيتشه) «إن العزلة القاتلة التي عاش فيها نيتشه قد صبغت أسلوبه بصبغة خاصة، وشعوره بالوحدة قد أضفى على كتاباته نوعاً من الترفع والتعالي»


ومن النادر أن يكون الإنسان عاشقاً لعالمه الذي هو قابعٌ به إن كان هذا العالم مؤذي لهُ غاية الأذى إلا في حالة أن يكون المُعذب كاتباً فقد يجد في هذا العذاب شيء من متعة لأنه يمنحه القدرة على مواصلة الكتابة عما يعاني وتضيف إليه أكثر من كونها تثقل فؤاده، فالكتابة بحد ذاتها طريقة مثالية لنفض الألم عن صدر الكاتب، وكأنها قرار لجوء من أرضٍ باتت تتغذى على النزاعات ويتفشى بها عدم الأمان إلى أرضٍ يجد فيها الإنسان راحته ومستقبله، إلى الكلمات مما يعانيه.


ومن ذلك عندما كان الأديب التشيكي الموغل في انعزاله (فرانتز كافكا) يعاني من القلق والتهديد ويحيا بعالمٍ تحفه الريبة والانعزال فهو لم يحاول أن يهرب منه، بل كان يراه سر (الوجود) ومن لوازم الحياة وبه طاقة تبعث على الإبداع عندما قال في رسائله «إنه اندلاع وهو يأخذ مجراه، ولقد قطع جزءًا من شوطه، إلا أن الطاقات التي بعثته إنما ترتعش في داخلي طوال الوقت، قبل الاندلاع وبعده -في الحقيقة- حياتي، وجودي إنما يتألف من هذا التهديد السفلي، فلو توقف هذا التهديد لتوقف أيضًا وجودي. إنه طريقتي في المشاركة في الحياة، فلو توقف هذا التهديد، أهجر الحياة»


واستمر التهديد السفلي -كما يسميه- واستمر في انعزاله اللامتناهي مريضاً (بالسل الرئوي) فعانى منه كثيراً، حتى أنه لم يكن يرغب في أن يسكن الفنادق لأن نزلاء الغرف المجاورة لن يتحملوا سعاله المتكرر طوال الليل نتيجة مرضه، ولكنه كان يرى أنه استفاد من المرض -كما استفاد نيتشه من اضطراباته- حين قال «هذا المرض الذي عرفته من خلال خبرتي الخاصة التي دامت ثلاث سنوات، لعله أن يكون قد أفادني بقدر ما ضرني»


ولكن على الرغم من ذلك، كانت عيشته في عالمٍ بعيد كل البعد عن البشر لا تزوره به إلا السحالي والطيور قد قلل من احترامه لنفسه «كما هو الحال منذ ما يقرب من الأسبوع، تزورني في الغرفة السحالي، والطيور، وأنواع أخرى من الكائنات» فكان يصف نفسه بالحيوانية ويقول «إن المسألة تقريباً على هذا النحو: أنا حيوان من الغابة، كنت في ذلك الوقت أكاد أتواجد في الغابة، أستلقي هناك في مكان ما من حفرة قذرة (قذرة فقط نتيجة لوجودي بداخلها بالطبع)» لذلك لم يكن يميل إلى الناس، كان دائماً وحيداً ومنعزلاً.


 فنيتشه في عالمه المنعزل، حاول أن يؤسس أسرة، ولكنه ظل يفشل كلما حاول، كاد أن يتزوج، ولكن حدث انفصال بينه وبين خطيبته، فمهما بذل قصارى جهده في كل علاقة يخوضها، لم يستطع أن يستمر أبداً في واحدة منهن وأرسل لميلينا «إن إمكانية الحياة المشتركة التي ظننا أننا قد عشناها في ڤيينا ليست في الإمكان، تحت أي شرط، ولا هي حتى كان قد أمكن وجودها وقتذاك. لقد تطلعت من فوق حافة سياجي الذي يفصلني، تشبثت بقمة ذلك السياج بيدي ثم.... سقطت متراجعاً بأيد جريحة متسخة»


فالصورة هنا واضحة، أنه يتخيل نفسه محاطاً بسياج وكل ما حاول أن يقفز من عليه ويتجاوزه، يعبر إلى الضفة الأخرى، حيث الناس، حيث الحياة المشتركة، حيث تتبدد العزلة، رجع مجروحاً ملطخاً بالدماء. فآثر أخيراً الانعزال والتأليف قبل أن يموت متأثراً بمرضه وهو لم يكمل روايته (الجحر) التي باتت فيما بعد من أفضل الروايات ذات النهايات المفتوحة، وكأنه أراد أن يقول أن نهايته لن تأتي، بل هي مبتورة من حياته، بل هو سرمدي لا ينقطع.


وكانت ولا زالت الدهشة كامنة في كل من يأتي من عالمٍ مختلف بشرط أن لا نكون قد ولجنا إلى هذه العوالم من قبل وإلا زالت الدهشة، وعالم المنعزلين عن مجتمعاتهم مدهشة، إلا إن كنا منعزلين فهذا لا يعدو أن يكون تقليداً وعرفاً مألوفاً كحديث كافكا عن فتاة تسمى يارمييلا «أما عن نفسها فلم تذكر سوى القليل، وأنها تجلس في المنزل طوال الوقت -ويبرهن وجهها على ذلك- وأنها لا تحادث أحداً، وأن مغادرتها للمنزل لا تتعدى مرة من وقت لآخر تذهب فيها لتبحث عن شيء في إحدى المكتبات» فهو وصفها وصف إخباري وكأنه يتحدث عن طقسٍ معتاد في بلدته أو نقل قطعة من الأثاث من زاوية إلى أخرى. 


وكما ذكرنا أن هؤلاء الذين كانوا يعانون من الكثير مما يعانونه أصبحوا مبدعين، أو أنهم يعانون لأنهم مبدعين، فالعلاقة هنا كانت ارتباطية أم سببية فهذا ليس مهماً بقدر أهمية اقتران بعضهما ببعض، ولذلك نجد الناس في كثير من الأحيان يسعون إلى اختلاق عوالم غير واقعية لرسم هالة إبداعية حولهم، كالأديب الذي يحاول ما استطاع أن يصف حياته كجحيم رغم أنه يحيا في عالمٍ رتيب يحتسي به القهوة كل صباح ويقوم بعمله حتى الظهيرة ويعود ليكتب في المساء، يسكن في الشقق التي يقطنها مواطن متوسط الدخل، ويحيا كما يحيا الملايين، ولكنه يستمر في وصف معاناة هو لم يعشها.


أو كالفيلسوف الذي يرتدي السواد ويحدق في الفراغ من زاوية الحجرة حتى تنتهي جلسة التصوير فيعود إلى وضعه الطبيعي ويشاهد التلفاز أو مسلسله المفضل، ويقول جيل دولوز من كتابه نيتشه والفلسفة أن هذه الممارسات ليست إلا قناع أو حيلة تضمن لهم البقاء في المشهد «لا يمكن للفيلسوف أن يولد ويترعرع، ويكون له بعض الحظ في البقاء إلا إذا كانت له هيئة الكائن التأملية، هيئة الرجل الزاهد والمتدين الذي كان يسيطر على العالم قبل ظهوره. وهذه الحتمية تضغط بثقلها علينا، لا تشهد عليها فقط الصورة المضحكة التي ترسم للفلسفة، صورة الفيلسوف الحميم، صديق الزهد»


وقد يصاب الفيلسوف من هذا القناع بالضجر، فلا يمكنه أن يرتدي ملابساً صفراء مثلاً وهو فيلسوفاً أو أن يقوم بترتيب شعره أو حتى التقاط صورة في مكانٍ بديع، بل يجب أن يكون زاهداً تماماً، وهذا صعب جداً على من يفعله، فالممثلون غالباً يتعبون من التمثيل وكثرة المشاهد وطلب المخرج إعادة المشهد في كل مرة على الرغم من أنهم لا يمثلون إلا مدة يسيرة من حياتهم فكيف إذا كان التمثيل أسلوب حياة لهذا المثقف، فهو دائماً في تقمص لشخصيات قد لا تمثله، وفي كثير من الأحيان يحاول الإنسان أن يخرج من هذا الدور ويقول أنه ليس كما يظنون به كفيلسوف أو أديب، بل هو إنسان، إنسان يحيا كما يحيون وينام كما ينامون ويأكل كما يأكلون فهل سيصغون إلى ما يقول.


ولكن ماذا لو تحولت تلك العوالم التي نحن نراها مختلفة ومثيرة للاستغراب إلى عالم سائد لا يثير الدهشة، بل قد يصبح من لا يحيا بها هو من يثير الدهشة للآخرين، على سبيل المثال في فترة فيروس كورونا الجميع يجلس في بيته ما استطاع وينظف ما يشتري بمعقماته التي تملأ البيت ويرتدي كمامته قبل أن يخرج إلى مكانٍ ما وهذا فعل قد لا يتفق لنا أن نفعله (جماعةً) قبل ذلك ولا يقوم به إلى من لديه وسواس في النظافة والاحتراز، ولكن الآن من لا يرتدي الكمامة ويقضي جل يومه في الخروج من البيت لأشياء غير ضرورية بلا احترازات هو الذي يثير الاستغراب والتعجب.


وقريباً من ذلك العالم الافتراضي -أو عالم الشبكات- هذا الذي يستطيع الربط بين المشرق والمغرب وإرسال الرسائل في ثواني وتطور أيضاً وأصبح يستطيع نقل الوسائط والتحدث بشكلٍ مرئي وأصبحت هناك منصات لجمع الذين يهتمون بنشاطٍ ما عليها والتفاعل معهم.


استحضرت في وصفي لها العقلنة لإنسانٍ كان في زمانٍ ومكانٍ لا تتوفر به هذه الشبكات، ولكنها الآن أصبحت لا تثير الدهشة، ونستطيع القول أن ما يثير الدهشة أن يكون هناك من لا يعرفها أو لا يستخدمها ولذلك عندما نخرج منها نرى العالم مرةً أخرى شيء مدهش.


بات العالم الذي كنا به، عالم الأغلبية، العالم السائد هو العالم الذي يثير الاستغراب والدهشة حين نقطن به ليس كما هو مفترض أن يكون عالم الشبكات هو المختلف والمدهش. فالانعزال في عصرنا الحالي لا يكون في البعد عن الجموع البشرية التي تقيم على أرض الواقع، ولكن المنعزل هو الذي لا يملك حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي ويبتعد عنها.


_____

#نيتشه #كافكا #فلسفة #أدب #عزلة #وحدة






إرسال تعليق