نموذج الاتصال

المدنية الإسلامية وأثرها في الحضارة الأوروبية

  

بادئ ذي بدء حين نتحدث عن أثر الإسلام على الأمم الأخرى فنحن نتحدث لزامًا عن تأثير العرب، لأن علماء المسلمين كانوا يكتبون بالعربية، وعصر التدوين زاخر بلغة الضاد دون غيرها، فلماذا نقول المدنية الإسلامية لا العربية.

يفسر «كويلر يونج» سبب اختيار هذا الأمر أن الحراك الفكري [العربي] لم يكن له الرواج إلا بسبب تحديد مسار الإسلام له، حيث أن الاسلام احتوى الأفكار العربية "وأظلها بظله، وطبعها بطابعه" 

ولكن في الحقيقة أن المصطلحات متجانسة من حيث الاستعمال، فنرى «عاشور» تارة يقول "أثر العرب في التاريخ" ثم يعود في السطور التي تليه ليقول "الحضارة الإسلامية" وهذا بسبب أنها الأساسات التي أرست المدنية، فاللغة لهذه الحضارة هي العربية، والديانة هي الإسلام، ولا ضرر من تسميتها بإحداها. 

سأتناول في المراجعة المبحث الأدبي والفلسفي، والكتاب أوسع من ذلك وأشمل.

 

 

التأثير الأدبي

يقول «عاشور» عن الأدب الأوروبي في العصور الوسطى "آدابهم المعاصرة المجدبة التي أعوزها الخيال الخصب" فكان من الأجدر أن يبحثوا عن شعرٍ يضفي إليهم ما يفتقرون إليه، فيضيف "عندئذ اتجهوا شطر الأدب العربي المعروف بالخصوبة والإبداع" 

 

ويقول «دانتي» عن الشعر الإيطالي أنه ولد في صقلية، ووقتها كان للعرب حضارة زاهرة فيها! وأيضًا ظهرت نزعة جديدة تسمى [التروبادور] ويؤكدون على أنها مستقاة من الأدب العربي أيضًا، لأنها تحتوي على غزلٍ رقيق ورثاءٍ باكي, وهذا ما لم تراه أوروبا في وقتها، وبالإمكان الرجوع لأشعارهم قبل ظهور هذه النزعة الجديدة لتجدون أن هذه الخصائص للشعر العربي كانت غائبة في الحضارة الأوروبية، وبعد ذلك ظهر نوع آخر من الفن متأثرًا [بالتروبادور] وهو غزل الفرسان بألمانيا، وكان مشهور عند العرب من قديم ولنا في [عنترة ولبيد] مثال، والأدلة في نسبة غزل الفرسان للحضارة الإسلامية العربية أكثر من أن تذكر في هذه التدوينة، وأكدها «ريبيرا» «ونيكل» «وجوليان» «وتالجرين» «وروبير بريفو»

 

ومما يذكر أيضًا ظهور نوع من الشعر يسمى [الحب الرقيق] عند الفرنسيين، وهذا الفن تحدث عنه «ابن حزم» في كتابه [طوق الحمامة] وطرقه قبلهم.

 

واستمر هذا التأثر: "إذ النهضة الأوربية منذ القرن الثاني عشر تقوم على أساس الإفادة من كتب العرب التي ألفوها أو ترجموها، وبالتالي مر الغرب الأوربي بعصر أخذ فيه المتعلمون والمثقفون ينظرون إلى اللغة العربية بوصفها لغة الثقافة الراقية والعلم"

 

ويقول [ألفاور] عن هذا التأثر اللغوي الذي تجاوز حدود التأثر النخبوي -بالشعر- إلى التأثر اليومي في الحديث والمراسلة: "وا أسفاه أن الجيل الناشىء من المسيحيين الأذكياء لا يحسنون أدبا ولا لغة غير الأدب العربي واللغة العربية. أنهم ليلتهمون كتب العرب ويجمعون منها المكتبات الكبيرة بأغلى الأثمان، ويبالغون في الثناء على نفائس الكتب العربية، في حين يأنفون من الرجوع إلى الكتب المسيحية بدعوى أنها لا تستحق الالتفات. إن المسيحيين نسوا لغتهم فلا تجد منهم اليوم واحداً في كل ألف يكتب بها خطابا لصديق. أما لغة العرب فما أكثر الذين يحسنون التعبير بها على أحسن أسلوب، وقد ينظمون بها شعراً يفوق ما ينظمه العرب أنفسهم في الأناقة وصحة الأداء"

 

التأثير الفلسفي

يقول «ترند» "إن أعظم ما خلفه المسلمون للفكر الأوروبي هو أعمال فلاسفتهم" لدرجة أن فلسفة «أرسطو» لم تُفعل ويلقى عليها الاهتمام الصحيح إلا بعد التفات علماء الإسلام إليها ويدل على ذلك قول «جيوم» أن أرسطو ظل مهملاً حتى ظهر فلاسفة المسلمين فقاموا بنقلها. ولعل بعض المؤرخين ومنهم «رينان» يقولون "ألقى أرسطو على كتاب الكون نظرة صائبة ففسره وشرح غامضه، ثم جاء ابن رشد فألقى على فلسفة أرسطو نظرة خارقة ففسرها وشرح غامضها" فهو يواسي بينهم في التأثير والقيمة، فلولا وجود الشارح الأكبر -ابن رشد- لما كان لفلسفة «أرسطو» أي قيمة. 

ومن ناحية أخرى يقول «جوستاف لوبون» أن ابن رشد لا يتساوى مع أرسطو، بل هو أعلى منه "ابن رشد سبق أرسطو سبقا يثير العجب، وأن فلسفته مقبولة في كثير من الأمور أكثر من تلك" وتبعًا لذلك أصبحت تدرس في جامعات أوروبا فلسفة «ابن رشد» منذ القرن الثالث حتى القرن السادس عشر، وتغلغلت تعاليمها في المؤسسات التعليمية الرسمية وخصوصًا في إيطاليا، حتى أن «دانتي» وضع ابن رشد في قائمة الفلاسفة العظام الذي يفخر بهم التاريخ!

 

وأما على مستوى الفلسفة الصوفية فإنه لدينا «ابن عربي» كأكبر أعلامها، ويرى «بلاكيوس» أن الكثير من آراء  «دانتي» الدينية كانت مستمدة من «ابن عربي.»

ويتحدث أيضًا عن أن «جوهان كارهت» «وسبينوزا» قد أخذوا الشيء الكثير منه في الذات والصفات وتجلي الخالق في مخلوقاته وغيرها من المواضيع المطابقة لآراء المتصوفة المسلمين، ونختم هنا في «ريموند» الذي اقتبس أيضًا من «ابن عربي» في كتابه [أسماء الله الحسنى] وبذلك نكون أمام حتمية أن أوروبا وعلمائها قد أخذت من الفلسفة الشيء الكثير، وكان لأكبر فلاسفتها -سبينوزا وكارهت وغيرهم- تأثر واضح ومحدد في الفلسفة العربية التي اقتبسوا منها، فضلاً عن الجامعات التي كانت تخرج أجيال بأكملها ترى الفلسفة الإسلامية العربية منتهى العقل وآخر مرام البراعة التأويلية.








إرسال تعليق