نموذج الاتصال

في الثقافة والاكتئاب


وأنا أستلقي في ليلةٍ قد غاب القمر بها وأشعر (بنغزات) اكتئابية تلاحقني ولا أحاول مكافحتها، بحثت في اليوتيوب عن الاكتئاب، وجدت كماً هائلاً من المقاطع، هل كل هؤلاء يعانون مما يكدر ليلتي؟ قررت أن أتابع مقطعًا له عنوان جذاب ويقول معشر الشعوب المستلقية في التعليقات أن من يتحدثون بالمقطع فلاسفة، قلت حسنًا، لا داعي لإطالة التفكير دعني أقتحم المقطع “وتعرف قراح البير ولا هماجه.” كان الحديث طويلاً حتى انتهى كوب الشاي وأنا لم ألتقط فكرة واحدة من الممكن أن تكون مكتملة، حتى أتت فتاة تتحدث عن تجربتها، وقالت: “الشخصيات اللي عانوا من الاكتئاب أو عانوا من أي تجربة نفسية هم ناس متأملين ومخهم أكبر من مخ الشخص العادي” ثم اعتدلت وأصبح الموضوع حينها أكثر جدية، من الممكن أن يكون مخي أكبر من الشخص العادي!


فحاولت البحث عما يثبت هذا الموضوع بشكل علمي، رغم أنه من السهولة بمكان أن آتي بالأقوال الشعبية والمرويات الشفهية حول من (انلحسوا) من الثقافة وفقدوا عقولهم جراء قراءة الكتب، وأتذكر رجلاً كان غريباً ولا تستطيع تقدير الحركة التالية له أو الكلمة التي سيتفوه بها, كان في بدء الأمر مُحباً للثقافة وعلى حد تعبير سكان الحارة (وش حليله) وبعد أن سلك طريقها وتمرّس بوعرها أصبح يهلوس بكلمات لا يفقهها أحد ومن ثم عاش “غريباً كصالح في ثمود


وجدت دراسة بعد مشقة، قامت بهذه الدراسة الباحثة المبتسمة دائمًا (روث كاربنسكي) وهي تحاول محاربة الاكتئاب والوقوف ضده بحربة العلم، ولكن هل تستطيع قهر الاكتئاب؟ -لفت نظري أن متابعيها في تطبيق تويتر 50 متابع بينما هناك حسابات أخرى لا تقدم أي محتوى ثري يبلغ متابعوها بالآلاف وهذا تالله من سخرية القدر- حاولت أن تبحث هذا الأمر ووجدت علاقة ارتباطية بين الذكاء والثقافة وما بين التقلبات المزاجية والاكتئاب والقلق. حسنًا وهذا يؤكد حديث الفتاة أعلاه، فلا يستغربن أحد منكم إن لاح لي أمر ما وذكرني بما مضى (وسجيّت بخيالي) بعد أن كنت مبتسماً. هذه شية واحدة من سيماء الذكاء في الفقير لله.


ومن ثم من أين تأتي السعادة للمثقف وهو يقضي جل يومه منزويًا على مكتبه كما يفعل العقاد -وقيل إنه مات بسبب جلوسه على المكتب بهذه الطريقة مما أدى إلى تضرر الأمعاء الغليظة- إما يكتب وإما يقرأ، ممسكًا رأسه حتى يظن من يراه في هذه الهيئة أنه من أوصياء الله للحفاظ على البشرية، تؤرقه تحركات الغوغاء والراديكاليين فيسعى لانتشالهم منها وإدخالهم إلى مدينته الفاضلة قرب الرصيف الذي يجلس عليه أفلاطون (وشلة الفلاسفة)، وبطبيعة الحال يفشل! فيسهر الليالي حتى تمتقع أعينه بالسواد وهو يعيد المحاولة وبقربه مصباح ذو إضاءة منخفضة، ونتيجة لما سبق تصبح النتيجة الطبيعية لحالته النفسية أن يكتئب.


ولكن صَبرًا لا أريد أن أكون قطعيًا، ربما المثقف ليس مكتئباً، أو المكتئب ليس مثقفًا، ولكن هذه صورة حاول أرباب القلم ترسيخها. فلم أقرأ لكاتب كتب عن شخصية مثقفة وقال إنها تمارس الرياضة وتتمتع بحياة صحية، بل دائمًا يجعلونها منطوية وتكره الناس ولا تشرب إلا القهوة (الظلماوي على غفلة)

 

ونظرت من حولي وأنا على الأريكة وأتناول البسكويت حبة بعد حبة - أشعر أنني نبيل كل ما مارست هذا الفعل، وأتذكر تلك النبيلة التي قالت دعهم يأكلون البسكويت- ووقعت عيني على رواية «الرباط المقدس» لتوفيق الحكيم، أقلب صفحاتها ولا أراه إلا يحاول تأصيل هذه النظرة، وبدأ يتحدث عن بطل شخصيته الذي أسماه راهب الفكر “تلك الحياة الهادئة بين الكتب والورق، الراكدة كمداد المحبرة، ما كان لديه قط شيء يجري، حتى ولا أيامه... فقد كانت حياة الليل عنده هي حياة النفس في اتصالها النبيل، بما يقرأ في ساعات السكون...” ويقول إنه كان مبتعدًا عن حب الحياة! “لم يشتهر عنه حب الحياة، ذلك كان الرجل وتلك كانت حياته بسيطة متجردة” ويكمل عن أنه لا يأكل إلا الأكل الناشف ولا يحب (الدسم) فظننته يتحدث عن رجل مصاب بالقولون وليس عن مثقف! ولماذا تصبح حياته متجردة من كل ضروب اللهو؟ هل أقسم على كتاب عالم صوفي -وهو المدخل لعالم الثقافة- أن يصبح سوداويًا. ما ضر الحكيم لو جعل المثقف يضحك -أحيانًا- ولو على سبيل المجاملة.

 

وجهة نظره تجعل من السعادة والثقافة حاجزًا بين مدينتين لا يمكن القفز عليه كما كنا نفعل إبان هروبنا من المدارس (نفرّك)، هو سور أعلى بكثير، يجب أن نحدد الفسطاط الذي نريده، نحجز تذكرة الذهاب دون العودة، نحزم حقائب التعاسة -إن كانت الوجهة لمدينة الثقافة- مودعيّ سعادتنا إلى الأبد. الآن أجلس فوق سطح البيت بعد أن شعرت بالجدران تضيّق الخناق علي، وأن المبدع حر ويرفض الاعتراف بالأطر. لو حصلت على (فنجال أشقر) لأصبحت جهبذًا مبتهج.

 

أرى كتابًا مرميًا بالقرب من (الدكة) منذ 2018، فأقترب منه على حذر، أمسح عنه الغبار وأرى قسمات العِتاب على غلافه. ألج إليه وأرى كاتبه ألبرتو مانغويل يقف بجانبي ويساندني في هذه القضية، ما أنبل الكتب، تساندنا، حتى لو نسيناها. فيقول “ربما ظهرت صورة الكاتب الفقير في الوجود في القرون الوسطى: منكمشًا على كرسيه العالي بأصابع انعقدت من شدة البرد، محدودبًا فوق قرطاسيته وعيناه تجهدان لتقتنصا بصيص الضوء. أيًا يكن المكان الذي انبجست منه هذه الصورة، فحقيقة الأمر أنها قد التصقت بالكاتب


أجيل نظري محدقًا في النار التي وقودها (حطب الارطى) وأقول: إذا هذه هي، ظهرت النظرة في القرون الوسطى، نعم! واقترن اسم العصور الوسطى بالظلام، وهي قرون موصومة بالتشاؤم، فكيف نستجلب منها نظرتنا للكائن الذي يتقد ذكاء. وأخيرًا استرحت على (مركاي،) وأيقنت أن نظرة الفتاة تنتمي لوقتٍ كان به العالِم يموت واقفًا, ويقف الجاهل متباهيًا بمخزونه الفارغ إلا من الترهات, فمن الطبيعي أن تنبجس هذه النظرة عنه ويقال عنه مهرطق وبه خلل عقلي. سأوقد الأنوار في العصور الدامسة وأصدح بقولي إن الثقافة لا علاقة لها بالاكتئاب, وأن المثقف شمعةٌ في خليجٍ يغطيه ديجور الظَلال.





نشر في مجلة اليمامة بعنوان "اضطرابات وعقل متضخم"
____

وسوم: #ألبرتو_مانغويل #توفيق_الحكيم #الرباط_المقدس #روث_كاربنسكي #الثقافة #الاكتئاب #القراءة #الأدب




إرسال تعليق