نموذج الاتصال

ظل الشتاء


مدينتي كغيرها من المدن تستقبل في هذه الأيام فصل الشتاء على استحياء وكأنها تخطو على أرض تحسبها لجة وإنما هو صرح ممرد من قوارير، تتقدم ببطء مخافة التعثر أو السقوط، وقلبي مع كل نسمة برد يعود له الشعور القديم، ذاك الذي كان، ولم يتغير.

كل شتاء يأتيني ينقص عدد حاضريه، سنة عن سنة تلاحظ عيني تهاوي الأعداد حتى كادت تبلغ المنتهى، أو ربما بلغته وأنا لا أعلم، لم أعد متحمسًا بهذا الشتاء لشيء أبدا، ليس تكبر على الفرحة، من يتكبر على الفرحة مخطئ ومن نسيها ستنساه وحينها يبلغ من الكدر ما يبلغ إلى ان يتحول إلى شخصية تعيسة كالتي بالروايات، تمر بأناة رهيبة وتحتسي الشاي عقب ما يبرد وتتناول قطعة الرغيف اليابسة وتنتحب بالركن وتخفي جمال أعينها الهالات.

ولكني أصبحت أرى السعادة بأشياء أكثر بساطة وأكثر تواضعاً, لم يعد من المهم أن تكون الفرحة كبيرة أو أن يكون الحدث ضخما, يكفي من هذه الايام كوب قهوة وحبر وورقة ولا يحجب عني الهواء حاجب وأنزوي بعدها إلى جانب المدفأة وأتدثر بمعطف الفرو, وربما ذهبت لأرتشف من (حليب الزنجبيل) لعلي أخفف به من وطأة البرد شيئا ولو كان يسير, معايير بهجتي بسيطة أليس كذلك؟ 

الطمأنينة هي ضالتي في دنيا القلق واضطراب الافئدة، ويبري فؤادي أن أستريح مطمئن وبعيد عن مواطن الضغط، كل علاقة تهدد أمن قلبي القومي يجب على اجتثاثها من فورها لدحض الأعمال التخريبية في بلاد السعادة. والآن عادت لبالي إبان همود الريح صور لأناس رحلوا إلى مكان آخر، ولا أظن أن لهم عودة، قطعوا تذكرة الرحلة الأخيرة ولم يلوحوا قبل أن يسافروا بالوداع، أطيافهم فقط هي التي أراها بين الفينة والاخرى، صور تتكرر، ابتسامات انطفئت، صباحات مضت، خصام وزعل.

جميع الذكريات التي كنت أعتقدها سيئة أصبحت الآن تضحكني وتبكيني في آن واحد، كيف لفصل من الفصول أن يأتي بالحنين جملة، ويجعلني أتهاوى أمامه بكل ما كان لدي من كبرياء وعزيمة، كيف يكون الطقس فقط قادر على أن يجعلني أعود لمحادثات أكل عليها الزمن وشرب، كيف استطاع أن يجعل العبرة تتوقف في مجرى الكلام وتبدد جداول الحديث، هذا أنا في ظل الشتاء



- نُشر في مجلة فرقد

إرسال تعليق