المقدمة
عاد قاسم أمين من Paris بعد أن أتم دراسته للمجتمع الفرنسي وحمل معه من تراثها وأفكارها الكثير وبدأ في التأليف عن وضع المرأة العربية في بداية القرن الماضي وتحديداً في عام 1899م (1) وظل يطالب بتحريرها من براثن السطوة التي فرضت عليها -كما يعتقد- أو أنها كانت موجودة منذ الأزل
وقال في مقدمة كتابه (2) (لا أظن أنه يوجد واحد من المصريين المتعلمين يشك في أن أمته في احتياج شديد إلى إصلاح شأنها) فهو يرى أن الحالة العربية -كما سيتم عرضه- والمصرية تحديداً في حالة انحطاط لا مثيل لها في جانب حقوق المرأة بخلاف المرأة الغربية.
ويستوجب هذا الحديث منا سؤالاً. عفواً بل أسئلة عديدة عن ماهية الانحطاط من وجهة نظره وما هو السمو.
قاسم أمين ما قبل التحول الفكري:
كان في
بادئ الأمر ليس بالمنادي بما نادى به لاحقاً, بل على العكس من ذلك كان يدافع عن
الحجاب وغيره من المظاهر الإسلامية الدينية بل وأشد من ذلك أنه كان يهاجم
الفرنسيون في كل محفل وزمان;
ومما
يذكر في هذا الجانب قصته مع داركور.
حين كتب داركور كتاباً يهاجم به مصر والمصريون ويقول به ما يقول من نسبة الانحطاط إلى الإسلام وقوله إن الإسلام يحض على التوكل على القضاء والقدر وهذا يدعو إلى ترك " المقادير تجري في أعنتها" مما سبب الخمول والكسل; والحديث يطول في تدوين هذه الانتقادات المتفرقة التي أوردها في كتابٍ اسماه (مصر والمصريون)
حينها
رد عليه قاسم أمين في كتابٍ أسماه (المصريون) وحاول أن يفند جملة الانتقادات, ولم
يكتفي بالرد حينها بل تجاوز ذلك إلى مهاجمة فرنسا وقوله أن سبب الانحطاط
والتأخر ليس التوكل على قضاء الله وقدره وإنما هذا نتاج عبث القوات الفرنسية بمصر
ومحاولاتهم المستميتة في إضعافها وربما نجحوا في ذلك حينها. وبدأ يدافع عن الإسلام
ونفى صحة حديثه عن أن الإسلام يقف في وجه التنمية وتحدث بغير هذا الحديث وكان
بمجمله ينم عن أيدلوجيا تميل إلى الحفاظ على التراث الديني ولكن الكثير من هذا
تغير عندما عاد إلى مصر من باريس... (3)
ما بعد التحول الفكري:
نستطيع القول إن التحول الفكري لقاسم أمين ظهر جلياً في كتابه تحرير المرأة وما تلاه من كتب وهذا يعود لأسباب مختلفة ومتفرقة فمنها ما يقال أنه جلس في ديوان امرأة مثقفة وحين بدأت بالحديث وهمهمت بكلمات تشكو بها الحال, ومالت برأسها لقاسم أمين واستطردت. لم يطق صبراً أن يثبت على مبدأه القديم فتحول.
ولكن لا أعتقد أن سكرة القناعة بحديثٍ من جميلة تطول لتأليف الكتب وبناء القناعات الراسخة بتدني حال المرأة. لذلك لا أوافق على ما ينقل عن أن قاسم أمين رجل سطحي إلى هذه الدرجة التي تصورها القصة, ولكن أرجح أنها أسباب متعددة أدت هذا التحول الذي سنتناوله في الصفحات القادمة.
مقدمة كتابه تحرير المرأة:
حين تبدأ بقراءة الكتاب ترثي لحال هذا الرجل الغيور على أمته والذي ينافح في سبيل رفعتها ولا يأبه بما سيواجه بعد اصدار الكتاب من هجوم, وكل هذا جميل
ولكن ما يظهر لي أنه قال مغالطة يوجد ما ينفيها في الواقع, حين كتب في التمهيد لكتابه أن حالة المرأة الاجتماعية تتبع حال الأمة وتقدمها (4)
فمتى ما كانت الأمة قوية كانت حقوق المرأة بها تماثل قوة الأمة. ولكن لدينا نماذج كثيرة تخالف هذا الطرح.
فمثلاً لدينا الصين, تلك القارة لوحدها بصناعاتها واقتصادها وقوتها العسكرية لم تبلغ المرأة بها مبلغاً ذو بال, بل أنها محكومة بدرجةً عالية وفاقده لحقوقها الطبيعية.
فحين نأتي بمثال على هذا القمع لها سنذكر أولاً أنه يُحدد لها عدد الأطفال (5) وما تنجب منهم وهذا مثالٌ كافي لتصور الدرجة العالية من قمع الحرية فإن لم تكن حرة بإنجاب الأطفال فأي انحطاط بحقوقها, هذا هو الانحطاط للمرأة بأبشع صورة رغم أنها تبعاً لأمة متقدمة
هل باريس مثال يحتذى؟:
غادة السمان من اللواتي يحاربن الحجاب ومن اللواتي يرين فيه (شناعة) "هذا الحجاب المريع" (6) وتقول أيضاً "الحجاب بحد ذاته صورة من صور التخلف"(7) فعلى هذه الأفكار لا نستطيع القول عن غادة السمان أنها مُندهشة حين قالت عن باريس
" باريس قارب، ربانه مجنون، وبحره هائج، وركابه ثمالى" (8)
فهي لا تجد غرابة أساساً في جميع المظاهر الغربية الطبيعية, وليست تلك المرأة التي تهرب من عالمٍ ليس بعالمها، وإنما وصف لواقع الحال, فهي رأت هناك ما يدعو لقول هذا الكلام ووصف باريس بالجنون -في القرن الماضي-
فكيف نستطيع أن نتلقف حديث لرجل يأتي ويقول اجعلوا نساءكم كالفرنسيات. أين العقل في ذلك؟ لماذا نرغب بأن تكون النساء العربيات كنساء باريس التي نعتتهم السمان بالجنون. والحقيقة هذا يدعوني للتأمل في ماهية الأفعال التي جعلت السمان تصفهم بهذا الوصف, وهي بلا شك تتجاوز حدود المعقول لمرأة تجد في الحجاب شناعة!
تصنيف النساء لدى قاسم أمين:
يرى
قاسم أمين أن المرأة العربية -عموماً- لا ترتقي إلى وضع النساء ولا تقارن بهم ولا
توضع في مصاف نساء العالم, بل أنها بلا قيمة حقيقية بين تلك النساء الغربيات
-عموماً- المتقدمات جداً في حقوقهن وعلى ذلك أتى بتصنيف يرتب به درجات النساء وقال
به " ...المرأة الأمريكية في أول صف، ثم
تتلوها الإنجليزية، وتليها الفرنساوية ...
" (8) وإلى آخره من الجنسيات الغربية,
ولكن لدي ملاحظتان على ما يقول وهي تتلخص في جزئين:
أولاً: هل المرأة الغربية تخدمها حقوقها حقيقةً
وهل إن جاءت بطفل يُلزم الرجل بالنفقة عليه كالعربية -في الخصوص- والمسلمة -في
العموم- أم أنها تكابد لوحدها مشقات
الحياة رغم أن الرجل يستطيع عيش حياته بكل
انسيابية دون أن يدور في خلده مصير هذا الطفل وبلا أن يعبئ بهذه المرأة سواء أماتت
جوعاً أم تركت دراستها لتعيل نفسها وابنها.
وغيرها من الأمثلة التي تجعل
المرأة وحيدة أمام أمواج الحياة المتلاطمة.
وثانياً: كيف أخرج قاسم أمين هذا التصنيف وماهي الأسس التي استند عليها, عدم وضوح معايير غريب في هذا التصنيف، إن السؤال عن ماهية المعايير التي أدت إلى جعل الأمريكية في أول صف وتأخر العربيات عن التصنيف بأكمله هو تساؤل طبيعي وحق مشروع لكل فرد منا. وللأسف كما هو واضح لا يوجد معايير فيُعد قول قاسم أمين تحيّز غير مبرر للمرأة الغربية ومشروعها التنموي وحراكها الحقوقي
قاسم أمين
والتعليم:
تحدث قاسم
أمين في الفصل الثاني من كتابه (9) عن أهمية تعليم المرأة وذهابها إلى
مقاعد الدراسة وطلب العلم, وأتفق معه في كل ما ذهب إليه من ضرورة الثقافة للمرأة
إلى تأكيده على أن إتقان مهمات ربة المنزل لا تتعارض مع كون المرأة متعلمة, بل
وأزيد على ذلك أن التعليم المتقدم -وليس الابتدائي فقط- من ضرورات ومتطلبات الحياة
الحديثة في القرن العشرين وصاعدًا, وأشكر له حديثه الثمين في هذا الجانب.
المرأة كالرجل:
قال قاسم أمين في مقدمة الفصل الثاني (10) -وهو ذاته الذي أشرت إليه فيما تقدم من الفقرة السابقة ولكني آثرت تقديم الثناء على الانتقاد- "المرأة وما أدراك ما المرأة؛ إنسان مثل الرجل، لا تختلف عنه في الأعضاء ووظائفها، ولا في الإحساس، ولا في الفكر" والحقيقة أن هذا الحديث بلا أدلة واضحة علمية كانت أم إنسانية وبلا تدليل على مصدر دأب عليه قاسم أمين في كتابه, ولا أحاول هنا التقليل منه ولكنه قد يكون رجل ينطلق من منطلقاته هو ولا يرغب في الاستناد على بحث علمي ولا تحليل نفسي, كما فعلته نوال السعداوي في كتابها (دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي) عندما ردت على فرويد (11) بمثال (الخصيتين) وأنا هنا صادق في أنها ردت على التحليل النفسي بهذا الرد.
فلم أعرف من يقول أن الرجل والمرأة متساوون من الناحية الجسدية والعاطفية, فمشاعر الأم وعطفها قدرة مميزة لا يقدر عليها الرجل. وليست قوة المرأة البدنية كقوة الرجل أيضاً.
فالإسلاميون ردوا على هذا الحديث ورفضوه في رسالة لمحمد قطب (12) وكذلك الداروينييون (العرب) خرج منهم شبلي شميل (13) ورفض هذه الأقوال. وأنا هنا استشهدت بتياران متناقضان كل التناقض لنبين أن هذه الحقيقة يتفقون ويجمعون عليها الناس من شتى التيارات.
العرب قديماً والمتعة:
ويزعم أن العرب كانوا يبيحون لأنفسهم التمتع بالنساء كيفما أرادوا بلا قيد أو شروط, وهذا ما تنفيه الروايات التاريخية المتواترة كقول هند بنت عتبة عندما كانت في إطار البيعة الشرعية وكان يقول النبي "وَلا تَزْنِينَ.. فقالت: يا رسول الله، وهل تزني الحرة؟!" (14) فهذا قول تعجب من هند على أن الإسلام لم يأتي بجديد, لأن النساء أساسًا كانوا يستقبحون إتيان الزنا رغم الجاهلية الدينية
والإسلام لم ينكر هذه الحقيقة ولم يقل بأنه هو الذي أتى بالعفة إلى الناس وإنما أقر بوجود مكارم الأخلاق لدى العرب من قبل ولكنه يشوبها في غالب الأحيان شيءٌ من لوثة, كانت الأخلاق كالأريكة المُريحة ولكن عليها القليل من الوسخ, فأزال عنها الإسلام وسخها.
ومن هذا قول
النبي محمد (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (15) فإنه يقر بوجودها وإنما غاية ما فعل بها الإسلام أنه هذبها, فالكرم
كان موجود وأقره الإسلام ولكن بضوابط, وكذلك العفة كانت موجودة وأصبحت هناك ضوابط
لممارسة الجنس.
الحجاب تغيّر:
كان يقول قاسم أمين أن الحجاب تغير ولا مناص من الهروب عن هذه الحقيقة التي يجب أن تحدث وأننا مهما حاولنا جاهدين على أن نحافظ عليه لن نستطيع سبيلاً إلى ذلك فهو في تغير مستمر(16)
فإن افترضنا على صحة قوله أن الحجاب تغير ولا
زال يتغير فحجاب اليوم ليس كحجاب الأمس. وقد كان يرتدى ليغطي الشعر والوجه والرقبة
وأصبح لا يغطي الرقبة وقليلاً حتى أصبح لا يغطي الشعر وقليلاً ربما لم يعد منه
فائدة, ولكن الحقيقة تتلخص في أن هذا التغير -وإن حدث- لا يعني أن نقول بأنه صحيح, حتى
ولو كان حتميًا.
أي أن المقياس على الصواب والخطأ ليس ما يفعله الناس أو ما تؤول إليه الأمور, ولكن المقياس هنا ما يُرتدى من أجله الحجاب; فإن كانت الحاجة إليه دينية فأنه يجب الخضوع للنصوص الشرعية التي تحدد ضوابطه ويُلزم بها, أما إن كانت العلة غير دينية كأن يكون اتباعاً لما يفرضه المجتمع على الفرد وإن كان المجتمع تغير فيجب علينا التغير لتغيره. فهذه نظرة بها من التبعية وانعدام الرأي الشيء الكثير.
الحجاب (النقاب):
تحدث قاسم
أمين عن عدم وجوب لبس الحجاب -كما نعرفه- وأتى بما أتى به من استدلالات وذهب
مذهباً طويلاً في التفسير والتاؤيل ولكن: لعدم تخصصي لن أخوض بهذا الحديث بل
سأتركه لكل متخصص وباحث يأتي ويناقش ويُبيّن في هذا المجال.
تمكين المرأة:
يتم الحديث
غالباً عن أن المرأة تمنع دائماً من التطور – تذكر في أماكن متفرقة من كتاب قاسم
أمين- ومن الابداع, وهذه المسألة ليست حكراً عليه بل أن هناك كُتاب وكاتبات يقولون
قوله ويرددونه, فمثلاً لدينا فيرجينا وولف عندما قالت أنه لو كان لدى شكسبير أخت
لديها ذات الصفات الإبداعية لما تمكنت من اكتساب شهرة كشهرة شكسبير ليس لشيء, بل
لأنها امرأة فقط (17)
وأيضاً إليف
شافاك تقول بهذا الجانب أنه لو كان لدى فضولي -وهو شاعر تركي- أخت تكتب الشعر كما
يكتبه لما تمكنت قطعاً من الوصول إلى ما وصل إليه, بل أنه سينتهي بها الحال زوجة
مطيعة تربي الأطفال وتحكي القصص لأحفادها (18)
وفي العصر الحديث حدث ولا حرج, يكفي أن تفتح مجلة أو صحيفة أو تدخل مكتبة حتى ترى كم الأسماء النسائية التي تصطدم بك.
خاتمة:
شكراً لقراءتكم.
هوامش:
- موسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب, ص 387
- تحرير المرأة, ص 8
- موسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب, ص 388
- تحرير المرأة, ص 9
- مقال: أزمة إناث بالصين بسبب الطفل الواحد
- الجسد حقيبة سفر, ص 254
- ذات المصدر
- الجسد حقيبة سفر, ص 415
- تحرير المرأة, ص 17
- ذات المصدر
- الأنثى هي الأصل, نوال السعداوي
- قضية تحرير المرأة, محمد قطب
- استراحة البيان, المعركة الأولى للمساواة, د. جابر عصفور
- البداية والنهاية الجزء الرابع, ص 324
- السلسلة الصحيحة, ص 45
- تحرير المرأة, ص 38
- إليف شافاك, ص 65
- ذات المصدر
- مقال: مشهد من نقد الشعر القديم