نموذج الاتصال

الرقص على إيقاع الوحدة

قال الطبيب "بروير" للفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه": أعتقد أن صداعك بسبب الأحداث المزعجة في عملك وعائلتك والعلاقات الشخصية, فقال نيتشه: لقد تركت التدريس, ولا منزل لدي لأعتني به, ولا زوجة فأتشاجر معها, ولا أولاد فأؤدبهم, ليس لدي ارتباط بأحد, المفكرون العظام يختارون ألا يزعجهم الآخرون.

أظنني توصلت إلى قناعة بأن الانعزال ينقي الفكر ويريح النفس, عندما تخالط آخر فأنت مجبر لا محالة على أن تمثل وترتدي الأقنعة, الحرية النفسية ليست - كما يعتقد الأغلب - في الركض والانسياب في الحقول, ولكنها خلف جدران الغرفة, التي تمنحك الحق بنزع جميع القيود والظهور على حقيقتك دون أن تواجه نظرات استنكار واشمئزاز, جدرانها البكماء تسمع ولكنها لا تتكلم, لا تتحدث للآخرين (كم هي جديرة بالاحترام.) أضف إلى ذلك أنها تقف حاجزًا دون المتطفلون والسذج.

فكرة الانعزال ليست طارئة, فإن ذلك الأديب لن ينظم رائعته أمام هؤلاء الذين يتذمرون من كل صغيرة وكبيرة, ولن يُنقّح الفيلسوف أفكار فلاسفة أثينا إن كان يتوسط مجموعة. وكل ما استقرت فكرة برأسه صاح أحدهم, فذابت الفكرة دون عودة كذوبان السكر بالماء الساخن.

عندما انخرط "ديكارت" بسلسلة الأعمال الميتافزيقية سافر إلى هولندا هربًا من الحياة الاجتماعية في باريس: لأنها تقتل معظم الوقت بين زيارة هذا ومراسلة ذاك. وأوصى خادمه بعدم الإدلاء بموقع المنزل لأي شخص, لماذا ؟ لأنه أراد أن يبدع وهذا شأن المبدعين.

وهناك من تتمحور حيواتهم حول الاجتماعات الفارغة, وأسميتها فارغة لأنها تدور دائمًا بفلك ثلاثة (الكورة.. النساء.. الغيبة) ولا تخلو من ثلاثة (السجائر.. الأرقيلة.. الشتائم ) ويظنون أن الشتائم بطريقة ما -لا أعلم كيف- مُزاح ! , وإن رفضت الحضور قالوا بأنك كئيب, حقًا؟ أفضّل الانطواء  الطاهر على أن أكون اجتماعيًا مُدنس بذنوب لا قِبلَ لي باحتمالها.

والمتباهي بعدد العلاقات وضيق وقته مِن كثرة الرفاق والدعوات, أعتقد -بل متأكد بأنني- سأراه -إن عاش وعشت- بعد 30 سنة وأنا أمر صدفة إلى جانب قهوة الحارة وحيدًا يطلب الأرقيلة العتيقة وكلَ ما نفث الدخان خرجت معه تنهيدة ألم على الشباب الضائع بلا أي إنجاز يذكر.




إرسال تعليق